مقالات

زمن اللامعقول: لماذا نتزوج إذن؟ هل الزواج من حق العبيد ؟

عندما قرر النظام المادي ذو الرؤية الفكرية المتحررة، والذي يفسر وجوده بنظرياته العدمية والوجودية، وإنتاجه بنظرياته الاقتصادية الجشعة، وسياساته بأفكاره المكيافيللية الانتهازية، عندما قرر هذا النظام المادي أن يهدم أسوار الأسرة والمجتمع فإنه أعلن أن الأسرة وتكوينها لم تعد حقا مكفولا للجميع، فبينما الحقوق التي يكفلها النظام الاجتماعي العادل للإنسان لمجرد كونه إنسانًا تتعد من مادية (طعام وشراب ومسكن وملبس كريم غير مهين وغير متكلف)، وفكرية وتربوية (التعليم والتربية الأخلاقية)، ونظامية (حق المشاركة في اتخاذ القرارات المصيرية في المجتمع من خلال التصويت المباشر أو غير المباشر عن طريق النواب المتخصصين المنتخبين)، كان هناك أيضا حق أساسي وهو الحق الاجتماعي أو حق تكوين الأسرة.

في المجتمعات التي قد نصفها بأنها تمتلك قدرا لا بأس به من العدالة الاجتماعية كاليابان مثلا، نرى أن مثل هذه المجتمعات قد قررت محورة حياة المجتمع حول الأسرة بصورة أكثر اعتدالا عن النظرة الغربية التي تمحور المجتمع أكثر حول الفرد لا الأسرة؛ فالمجتمعات الأولى تحاول أن تسد أمام الفرد كل المبررات أو أغلب المبررات التي قد تثنيه عن تكوين الأسرة، وتسوغ له كل الأسباب والعوامل التي تشجعه على ذلك القرار والحفاظ على هذا الكيان بعد تكوينه، ولقد قلنا أنها لا تتمتع إلا بقدر لا بأس به من العدالة وذلك لأن نظريتها في العدالة الاجتماعية وإن كانت جيدة ومتوازنة مع حقوق الإنسان التي ذكرناها إلا أن مبرراتها ناقصة؛ فاهتمامهم بهذه الحقوق ليس لعلمهم بأنها حقوق للإنسان لمجرد كونه إنسانًا، بل في النهاية هي للحفاظ على آلة المجتمع الجبارة الإنتاجية والمربحة في نفس الوقت، فالمدير إذا اهتم بالموظف فإن الموظف سيزيد اهتمامه بالعمل وبصورة غير مباشرة يزيد اهتمامه بالأرباح التي يحققها المدير، وإلا فإننا لا نجد مثلا في ثقافة اليابان أو كوريا الجنوبية أو فنلندا أو السويد أن الإحسان للإنسان هو من أجل هدف إلهي أرقى أو من أجل أجر وثواب في حياة أخروية، فالمسوغات مازالت إذًا بصورة ما أو بأخرى مادية في طبيعتها للاهتمام بالإنسان.

غير أن هذه المسوغات التي توفرها اليابان للأسرة وإن اتفقت في الطبيعة والمنطلق إلا أنها اختلفت في الكيفية والتوجه بينهم وبين أمثلة مادية أخرى رأت أن الآلة الاجتماعية ستعمل على ما يرام لو اهتممنا بالإنسان فقط وبالحد الأدنى، وليتحمل هو أعباء الأسرة إن أراد أن يكوّن أسرة من الأصل، فنرى في هذه الأمثلة الأم تعمل والأب يعمل والكل يعمل من سن صغيرة كالعبيد في مزارع القطن عند السيد الثري، فأنت عبد تلد العبيد دون أن تجني من وراء هذا الإنجاب إلا المزيد من الاستعباد لتوفر شروط المعيشة الضرورية لا لعائلتك بوصفها الكلاسيكي كونك سيد العائلة، ولكن بتوصيف استعبادي، فأنت ستهتم بالعبيد الجدد لسيدك الأبيض الثري. ولذلك فمن المنطقي جدا في هذا النموذج أن نجد أن العبد الأعزب أكثر سعادة من العبد المتزوج، لأن الزواج أصبح مجرد لائحة جديدة من المهمات تدين بها لسيدك أو لعبيد سيدك الجدد الذين أنجبتهم.

ولكن ربما نجد كلامي هذا فيه تخريف كبير، فإن السيد لو لم يهتم بأسر العبيد، فربما سيتوقف العبيد عن الإنجاب من الأصل، وسيضطر كلما نفقت قطعان عبيده أن يذهب للسوق لشراء عبيد جدد، وهو وإن كان يستطيع ذلك ماديا إلا أنه يستطيع توفير هذه المبالغ وزيادة هامش ربحه لو أن عبيده قاموا بالتوالد لإنجاب عبيد جدد له. ولكن مع منظومة القانون الاجتماعي القاسية التي يعاملهم بها سيفقدون حتما الرغبة في الإنجاب، أليس كذلك؟

إن تفكير الرجل الأبيض الثري ليس بهذه البساطة والطيبة، أذكر أنني كنت ألعب لعبة استراتيجية تعود في خلفيتها المسرحية لأحداث روما القديمة. كنت ألعب بطريقة وفلسفة محددة وهي أنني كلما توسعت في مدينتي التي أبنيها وطورت إمكانياتها الاقتصادية، فإنني كنت أحرص على أن تتطور منازل كل سكان مدينتي من الأكواخ البسيطة التي يبدأون بها إلى البيوت ثم الضيعات ثم القصور. كنت أحرص منذ البداية على أن يتمكن الجميع من التطور، وإن لم يكن بنفس الكم ولكن على الأقل ألا يحدث تفاوت كبير بينهم فيظل البعض قاطني الأكواخ بينما غيرهم يسبح في حمامات المياه الساخنة في قصورهم مع ملذات الدنيا التي لم يكونوا ليتحصلوا عليها لولا اجتهاد وعمل الكادحين سكان الأكواخ.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولقد لاحظت عند اتباعي لهذه الفلسفة أنني أتطور في المراحل الأولى للعبة وأصل لمدن بديعة تتميز بدرجة مقبولة من العدالة الاجتماعية، ولكن بعد عدد معين من المستويات وجدت أنني مهما حاولت أن أحافظ على مدينتي متوسعة وكبيرة ومنتجة مع الحفاظ على العدالة الاجتماعية، فإنني أفاجأ بعد تخطيط دقيق وساعات كثيرة ضائعة أنني أخسر في المراحل المتقدمة الأموال في النهاية وتستدين المدينة للقيصر القاسي، فيرسل لي جيوشه الجرارة عندما أفشل في تسديد الديون فتدمر المدينة وتعتقلني وأخسر في اللعبة، تكرر الأمر مرات كثيرة لدرجة أفقدتني الرغبة في اللعب.

وفي يوم من الأيام كنت أتكلم مع أحد أصدقائي المهووسين بهذه الألعاب وأشكو له، وتعجبت عندما ضحك وسخر من فلسفتي الرومانسية. وهنا تعلمت الدرس الأكبر في حياتي عن المادية، وربما هو الدرس الذي يجعلني إلى اليوم لا ألعب هذه اللعبة مجددا. قال لي: لا يجب أن يتطور الجميع، إن البعض خلق محتوما عليه أن يسكن الأكواخ ويعمل بالأجرة الزهيدة في الحقول، والبعض الآخر “مُرزَق” محكوم عليه أن يستمتع بالعنب المعصور وزيت الزيتون وحمامات المياه الساخنة في القصور، فإن أردت أن تنجح عليك أن تتوقف عن الاهتمام بتطوير المناطق الفقيرة، ألا تلاحظ أنك كلما حولت كل مساكن أهل القرية لدرجات أرقى كلما قل عدد العمال عندك في المدينة على الرغم من بقاء المدينة على نفس التعداد السكني؟ قلت له نعم، لقد كان هذا الأمر يحيرني ولا أعرف سببه حتى الآن! فقال لي أيها المسكين هل تتوقع من “سناتور” روماني مثلا أن يترك ابنه ليعمل في حقل الكروم أو مزارع القمح أو ورش الخزف. إنها قاعدة في اللعبة وفي كل مجتمع له بناء أرستقراطي أن الطبقة الارستقراطية تملك الكثير وتعمل القليل، بينما الطبقة الكادحة تعمل كل شيء ولا تملك إلا الفتات.

عليك لكي تبني المدينة الأقوى أن تحرص على استمرار وجود طبقة لا تقل عن 30% من المجتمع تسكن الأكواخ، فهذه هي القوة الإنتاجية لديك، ولكن لكي تتطور مدينتك وترتقي عليك أن تبقى الأكواخ بعيدة عن القصور، فتتعمد تزيين الأماكن والأحياء التي تريدها أن تتطور ليسكنها الطبقات الأرستقراطية وتمدها بالخدمات والبضائع المتنوعة، أما الأحياء العمالية فعليك تعمد إبقائها غير مزينة ولا يصلها إلا ماء الآبار فقط، وألا تبيع أسواقها إلا نوعا واحدا أو نوعين فقط من الغذاء لكي تبقى فقيرة وفي حاجة للعمل لديك لأنه في هذه اللعبة لو أصبح الجميع أغنياء فلن يعمل أحد وستخسر أنت كحاكم المدينة المال ورضا القيصر، وسيتم نفيك وتدمير المدينة بأحيائها الفقيرة والغنية. فالبعض يجب أن يبقى فقيرا لكي لا نصبح جميعنا فقراء وفقا للرؤية المادية الرأسمالية، أما في الرؤية الشيوعية فإن الجميع يزداد أو يقل في الثراء بنفس المستوى كما وكيفا دون تفرقة بين المنتج الكادح أو الكسول المتراخي أو محدود الانتاج، وكلاهما ظلم كما يتضح.

وهنا صدمت، يا للهول كم هم بارعون هؤلاء الماديين، لقد اختصروا النظريتين المادية الرأسمالية والشيوعية في لعبة واحدة بطريقة موجهة تجعلك وبدون تردد تختار نمطهم الرأسمالي دون أي تأنيب ضمير. وأنا إنما حكيت لكم هذه القصة لأعود للسيد الأبيض الثري ومشكلة العبيد عنده، ولنطبق نفس القاعدة، لا يجب أن ينجب الجميع، بالقياس مع قاعدة لا يجب أن يعمل الجميع ولكن بمزاج مقلوب؛ فيكفينا أن ينجب القدر الكافي من العبيد بحيث أنه لا يحدث انقراض أو فناء للعبيد (مجتمع ذاتي التوالد) ولكن ليس أكثر من الضروري لدرجة تجعل توفير ضروريات الحياة للعبيد أمرا مكلفا، ولذلك فعلى بعض العبيد ألا ينجبوا لكي يستطيع البقية أن تنجب حفاظا على نسل العبيد عند السيد الأبيض الثري.

ولكن كيف سيضمن السيد تحقيق هذا الاتزان الدقيق، إنه بالكبت الاجتماعي، وذلك عن طريق تعقيد شروط الإنجاب قدر الإمكان بحيث يضمن بأن الحظوة القليلة المطلوبة فقط هي التي ستنجب ولذلك كلما أراد أحد العبيد أن يتزوج عليه أن يأخذ إذن السيد أولا، ثم عليه أن يبني لزوجته بيتا لا يقل عن مستوى معين في مواصفات البناء والتأثيث، وعليه أن يقدم لها مهرا لا يقل في العرف عند مجتمع العبيد عن قيمة معينة، وعليه أن يضمن لها مستوى معينا من المعيشة، ناهيك عن مصاريف التعليم والعلاج وخلافه… إلخ بحيث يظل دائما ومهما تكلف الأمر العبد الأعزب أسعد من العبد المتزوج. كل هذه القيود المفرطة لم توضع اعتباطا أو عشوائيا، بل قام السيد بقياسها وتعديلها بعد تجارب توالد كثيرة لكي يعرف المستوى المطلوب من بهارات “صعوبات الزواج” الكافية لطبخة “زواج العبيد” بحيث لا يقل مستوى الإنجاب عن الحد الأدنى ولا يزيد عن الحد الأقصى فيتكبد السيد الأبيض الثري الخسائر.

وبدون أن أعقد عليك المسألة، فلنأخذ هذا المثال بحذافيره ونكبره ونعكسه على المجتمع لكي نستطيع الإجابة على عنوان حديثنا “لماذا نتزوج إذا؟”

يتبقى فقط لتكتمل الفكرة قضية هؤلاء غير المحظوظين الذين لن تتوفر لهم الحظوظ والإمكانيات النفسية والمادية لصعود جبل صعوبات الزواج والتمكن من تفريغ شهوتهم، ما هو الحل في هذا الكبت الاجتماعي المفرط الذي يعانون منه؟ لقد قام الأثرياء في المجتمع بالاجتماع مع جهاز إعلام هوليود ومبرمجي الحاسب الآلي في شركات البرمجة العملاقة، ومديري كازينوهات لاس فيجاس (تصور خيالي لحبكة درامية) وقرروا خلق قنوات أخرى لفك الكبت الجنسي، وكان الشرط ألا تؤدي هذه القنوات للنتائج التي كانت تحاول طبخة قيود الزواج أن تتجنبها وهو الإنجاب المفرط؛ فقامت الآلة المادية بدعم وتنشيط حركات الدعارة والعلاقات المنفتحة (التعبير الدبلوماسي للزنا)، مع تطوير باقات منع الحمل المختلفة.

ولا ننسى هنا قنوات الفضائيات الإباحية ومواقع الإنترنت السافلة، مع الترويج الإعلامي الممنهج لقضية الشذوذ الجنسي لكي يتقبلها القدر اليسير من المجتمع كمخرج آخر للشهوة، وسنتحدث عن الشذوذ الجنسي في مقال قادم، تلك الطاقة غير المدركة والتي ما أن تتعود على مخارج جديدة غير تقليدية فإنها لن تشعر بالفرق (أو هكذا ظنوا) طالما أنها سيتم تصريفها في النهاية، ولذلك قامت بتحفيز قضية الشذوذ الجنسي وتعويد المجتمع على تقبلها دون أي إساءة إجتماعية وتشجيع الأفراد على اختيار هذا النمط من الحياة عن طريق التقديم الممنهج والتدريجي والمركز في نفس الوقت لتلك القضية بالطرق التي تستغل الوعي واللاوعي معا (لمسة سيجموند فرويد مرة أخرى) خاصة بعد أن تمكن طب التجميل من كسر الحاجز الفسيولوجي بين الجنسين من خلال عمليات التجميل (أو التحويل الجنسي) المتطورة لا سيما عندما نجد أعلامهم ونجومهم ومذيعو الأخبار وأصحاب الشركات الضخمة يعلنون عن تبنيهم لأساليب الحياة هذه وبكل تفاخر وبجاحة وعلنية، ويمكن لمن يريد التأكد من ذلك تصفح أخبارهم بكل سهولة على الإنترنت لمعرفة التفاصيل فهي أخبار عامة تتناقلها قنواتهم وبرامجهم على مدار الساعة بتركيز وكثافة عالية جدا.

وبذلك تكتمل دائرة الحصار على مجتمعنا، مجتمع العبيد الذي قيد معصوب العينين في غرفة مظلمة، وظل المستعبد يوخزه في رأسه بالإبر ثم يختفي في الظلام، فلم نعد نعرف من أين يأتينا الوخز، فصرنا نشكك في كل شيء وكل شخص حتى فقدنا كل الثقة حتى في أنفسنا واستسلمنا لمصيرنا القاتم تحت سيطرة هذا السيد السادي المادي منعدم الأخلاق والضمير الذي لا يهتم إلا “بجيبه” وما يسعه من ثروات.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

 

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.