بحب السيما – ما هو حال الفن والإعلام بشكل عام و السينما بشكل خاص ؟
لا أتذكر تحديدًا كم كنت أبلغ من العمر حين أخذني أبي إلى السينما للمرة الأولى في حياتي، إلا أنني أذكر بلا شك الفيلم الذي شاهدته يومها “طأطأ وريكا وكاظم بيه” من بطولة جالا فهمي، نجاح الموجي، وكمال الشناوي، ربما لم يكن هو الفيلم الأفضل على الإطلاق، بل جل ما أذكره هو عدم فهمي لقصة الفيلم ومغزاه على الإطلاق، إلا أن هذا لم يمنعني من محبة كل لحظة من لحظات التجربة الجديدة، لتبدأ منذ تلك اللحظة محبتي للأفلام السينمائية،
تابعت العشرات من الأفلام وربما المئات، المصرية والأمريكية والإنجليزية والهندية والألمانية والفرنسية، متابعة انطلقت بالأساس من عاطفة طفولية، لذا تمحورت مشاهداتي حول الأفلام الكوميدية وأفلام الحركة، ذلك الذوق الذي أخذ يتسع تدريجيًا ليشمل أنواع عدة من الأفلام، حتى قابلتني يومًا جملة كتبها د. أحمد خالد توفيق حول أفلام الرعب الأمريكية وعلاقتها بالواقع الاجتماعي والسياسي،
فحين كانت أوروبا تعاني من وطأة الهوة الاجتماعية والاقتصادية بين طبقات المجتمع، خرج الأدب ومن ثم السينما علينا بأفلام تدور في القصور والطبقات الأرستقراطية حول مصاصي الدماء، أو حول المذؤوب المتوحش العنيف الذي يبدو وكأنه قد خرج من قلب المآسي، وحين عانت أمريكا من تهديدات الحرب الباردة كانت أفلام الاستحواذ الشيطاني التي تتحدث عن من يشبهوننا وقد يتشبهون بإخوتك وأصدقائك ولكن بداخلهم خطر الفكر الشيوعي!! لتتبدى أمامي ما قد تنقله السينما من مخاوف وأفكار لدى المجتمع.
هل الإعلام فعلاً ينقل الواقع ؟
“أنا بنقل الواقع ودي نماذج موجودة في الحياة فعلًا” جملة لطالما تشدق بها المنتجون والممثلون مدافعين عما يقدمونه أحيانًا من أفلام قد تحمل أحيانًا قيمًا مغلوطة، أو جرعة مكثفة من الإسفاف، أو نزعة عنف مبالغ فيها، وعلى الرغم من أن هذا ليس دور الفن أو الأدب على الإطلاق، والسينما بشكل خاص، حيث أن دور الفن يجب أن يكون دائمًا وأبدًا هو الترقي بالنفس الإنسانية ومخاطبة ذلك الإحساس الداخلي الباحث عن تذوق الجمال المجرد والتمتع به،
إلا أن واقعًا يبدو أن هذا ما يحدث بصورة ما، ولا أرمي بذلك نقل الواقع، وإنما نقل صورة الواقع في عيون هذا المجتمع بشكل ما، فما يتصوره هذا المجتمع عن القيم الأخلاقية والجمالية، وما يظنه فيما قد يحدث تاليًا أو ما يتوقع حدوثه، ينتج في صورة منتجات فنية وأدبية مختلفة، عمدًا كان أو سهوًا، فمثلًا حين كتب “جولي فيرن” رائعته “آلة الزمن”، لم يكن يتحدث عن ما قد يصل إليه العلم من تقدم، وإنما كان ما يريد إيصاله أعمق من ذلك في تلك النظرة المستقبلية للواقع الإنساني الغارق في نظرته المادية،
أم هي توقعات ؟
فمع اتساع الهوة الاقتصادية والاجتماعية المطرد يرى “فيرن” أن ذلك المجتمع يتجه بخطى حثيثة نحو مدينتين منفصلتين، مدينة ترفل في النعيم والدعة يقطنها مجموعة من البشر ضعاف البنية يعتمدون بشكل كلي مطلق على المدينة الأخرى في معايشها، ومدينة يقطنها أناس قساة خشني الهيئة والمظهر ذوو بنية قوية يتغذوا على أهل المدينة الأخرى، لذا فبالعودة إلى ما يظنه د. أحمد خالد توفيق فما هو ما تخبرنا به سينما اليوم؟
يستيقظ أهل كوكب الأرض على مجموعة من الأجسام الغربية التي تملأ السماء والتي سرعان ما تبدأ إبادة جماعية لأهل الأرض، أو هكذا يضع سبيلبيرج رؤيته لنهاية الحياة البشرية في فيلمه (حرب الكواكب)، حروب تقضي على أغلبية أهل الأرض حتى أن البقية يعيشون وسط الحطام وقد عادوا إلى العصور الحجرية في معايشهم، أو فيلم (كتاب إيلاي)، مرض غريب يحول البشر إلى مجموعة من المتوحشين آكلي اللحوم أو فيلم (أنا أسطورة)، عقار به تزداد القدرات الفكرية للقردة حتى تكون لها الغلبة والسيطرة على الكوكب وفيلم (كوكب القردة)، حركة القشرة الأرضية التي تؤدي إلى مجموعة من الزلازل التي تنتهي بمجموعة من الفيضانات الضخمة التي تكاد تنهي الحياة البشرية في فيلم (2012)،
النزعة العدمية في السينما
وهكذا إلى آخر القائمة التي تطول والتي تشمل العديد من التصورات لتلك التيمة (نهاية الحياة البشرية) والتي نادرًا ما تحتوي على نهاية غير مأساوية ومعاناة وآلام، هكذا ينظر عالم اليوم إلى مستقبله وهكذا يرى إنسان اليوم نهايته العبثية المحتومة، تلك النظرة التي تخبرنا الكثير عن رؤية إنسان اليوم لنفسه ولعالمه، فما هي الحكمة في بناء بنيان ليتهاوى؟ أو صناعة سيارة لن تتحرك؟ هكذا يرى العالم نفسه اليوم، وهكذا يرى الهدف من وجوده فإنما حياته لكي يموت، وتقدمه لكي ينهار، وسعيه لكي يخسر!
مجموعة من اللصوص حادي الذكاء، بعد نجاح إحدى عملياتهم يخدعهم زميلهم مما يجعلهم يسعون إلى الانتقام منه بسرقته، زوجة جميلة تعيش مع زوج قاس حتى يدخل حياتها هذا الشاب الوسيم المرح لتعرف معه السعادة مجددًا، مجموعة من القتلة والسفاحين يقع على عاتقهم إنقاذ الأرض من الخطر القادم، أو هكذا أصبح التطور الطبيعي للسينما والفكر والأدب،
فإن كان سعيك عبثاً ونجاحك سراباً، فما هي قيمة الحياة، الأخلاق، القيم، العدالة، والمبادئ، هذا هو لسان حال السينما اليوم، وقد فقدت المعنى فوقعت أسيرة للعدمية، فلا الإنسان نفسه يعني شيئا، يتساوى هو والحيوان في سعيه الشهواني ورغباته المادية وانقياده لغضبه الأعمى، يسعى للاشيء ولا ينتظر من الغد إلا الأسوأ.
أحب السينما، وأحب الفنون، وأحب الأدب، وأحب كل ما هو إنساني مميز للإنسانية، ولا يكون إنسانياً إلا بمخاطبة ذلك الجانب الفريد والمميز في الإنسان، العقل، موطن الفكر ومنبع القيم والأخلاق، والباحث عن الحق الثابت المطلق، المتعلق بالكمال، المدرك لغايته والساعي لتحقيقها، العامل على العمران المادي والروحاني، فلا يكون عمرانه المادي إلا لسمو النفس الإنسانية، وكمال العقل، وتحقيق المقصد من هذا الوجود الإنساني.
اقرأ ايضاً:
الكوميديا ودورها في الغزو الثقافي
هل حقاً الإعلام صادق في نقله للواقع؟
دور الإعلام في ترسيخ الأفكار والقيم
شاهد أيضاً: