يوم أكل الثور الأحمر
الثور الأحمر
إن من يعرف كيف أمكن لدولة مثل أمريكا أن توجَد وتتطور وتصبح ذات سيطرة على الكثير من المجالات سوف يدرك أن الكيان الصهيوني يكاد لا يختلف عنها في شيء.
كلا الدولتين قامتا على إحداث تغيير في التركيبة السكانية (تغيير ديموغرافي) باستخدام القوة وطريقة فرض الواقع، من خلال زرع أقلية في مساحة جغرافية ذات تركيب سكاني معين ثم العمل بكافة الوسائل غير المشروعة والمشروعة لتصير هذه الأقلية مهيمنة على الأرض والمجموعات البشرية القاطنة عليها.
كثيرا ما تحاول أمريكا –وغيرها من الدول والجماعات- باستخدام قوتها الناعمة من إعلام وصناعة السينما وغير ذلك أن تصرف الأذهان عن الجوانب المظلمة من تاريخها، أو تجعل ما قامت به تجاه السكان الأصليين يفهم على أنه ناتج عن أخطاء فردية أو سوء تفاهم، أو حتى تصوّر لنا أن حربا متكافئة وقعت، ونحن هنا نتكلم عن تطهير عرقي وقتلٍ على الهوية لنسبة 80-90% من السكان الأصليين، جزء كبير منه كان نتيجة لاستخدام طريقة الحرب البيولوجية ونشر الأوبئة من خلال تلويث مواد كانت تقدم للهنود الحمر في صورة مساعدات وهدايا! من الجدير بالذكر أيضا أن المستعمِرين (والذين لم يكونوا تحت لواء واحد وإنما كانوا متنافسين) عملوا على تأجيج العداوة والحروب بين قبائل الهنود المتعددة، كل هذا لم يتم فقط بدافع من الطمع وانعدام الضمير، وإنما في الواقع فإن الغرب كان ينظر للإنسان الأبيض باعتباره أرقى السلالات وصاحب الحق في السيادة دون غيره، وأنه من الأخلاقي أن يقهر الشعوب المتخلفة ويبيدها أو يوظفها لخدمته كما يستفيد – أعزكم الله- بالبهائم. ومن هذا المنطلق أيضا نفهم قيامهم باسترقاق الكثير من الأفارقة ليعملوا في الوظائف الدنيا في ظروف شديدة القسوة والمهانة.
وبينما استطاع أصحاب البشرة السمراء انتزاع الكثير من حقوقهم بعد نضال طويل فإن السكان الأصليين كانوا أقل حظا، فقد أصبح تعدادهم أقل من 1% من إجمالي السكان، يعيش كثير منهم في “محميات” قامت الحكومات باختيار مواقعها ونقلهم إليها قسرا.
هكذا نشأت أمريكا وهكذا أيضا نشأ الكيان الصهيوني والتشابه لا تخطئه عين فاحصة. بدلا من أن يكون الإنسان السامي هو الأبيض في الرؤية التي بني عليها الاستعمار الأوروبي فالمتسلط هنا أصحاب رؤية دينية صهيونية يدّعون أنهم من عرق واحد، وأن لهم حقا إلهيا وتاريخيا في أرض فلسطين يجعل من استيطانهم لها “استعادة لحق من متعدٍ محتل!!” ليس من المستغرب أيضا أن يركز الكيان الصهيوني في دعايته لنفسه على أنه يمثل بقعة متحضرة في وسط مجموعة من الهمج، مقارنا مدى تقدمه العلمي والتكنولوجي (نظريا وعمليا) بمحيطه الذي يعج بالفوضى والصراع والتخلف، يطالبون بدعم المشروع الناجح الوحيد في المنطقة في مقابل من يرونهم كائنات دنيا مهدِرة للموارد وغير مؤهلة لإدارة أمورها بأنفسها! هكذا يقوم الكيان بتبرير وجوده واستحقاقه للدعم، وإقناع الرأي العام العالمي بكون استخدامهم للقوة حقا و”دفاعا” مشروعا عن النفس والمجتمع المتحضر!
المثير للسخرية والغثيان هو أن هذه الحجة في زمن سيطرة الفكر الأناني النفعي أصبحت تجد بعضا من صدى عند الأعراق الأصيلة التي تعيش في هذه المنطقة منذ قديم الأزل، وعلى رأسهم العرب أصحاب النكبة والمصاب في الاحتلال الصهيوني.
لكن ما المطلوب الآن؟ هل المطلوب أن نكره الأمريكيين وننادي بزوال احتلالهم عن النطاق الجغرافي الذي يسكنونه وإعادة الأرض لأصحابها ولو كان هذا محالا بحسابات الواقع؟ علينا أيضا أن نتساءل: هل من العدالة والعقلانية أن نحاسب الجيل الحالي على الجرائم العظمى التي ارتكبها أسلافهم والتي لم يشهدوها؟ أم هل نعتبر الجريمة ساقطة بالتقادم فنكافئ كل مجرم حقق لنفسه أو من يتولى أمرهم مكاسب ومزايا عن طريق الظلم والعدوان على الغير.
لا بد أن الصواب وسط بين هاتين الرذيلتين: الإفراط في المطالبة بالحقوق والتفريط فيها، بين كراهية الجناية والجاني وكل ما ومن كان على صلة به، وبين مكافأة الجناة والاحتفاء بمنجزاتهم وتشجيعهم على الاستمرار في ارتكاب الجنايات.
إن التوقف عند توجيه الغضب تجاه أمريكا (بخصوص الكيفية التي أنشئت من خلالها وتقدمت) يعني أن اهتمامنا منصب على الجريمة الجغرافية القومية. بيض ضد “ملونين”، أوربيون ضد سكان أصليين. لكن من الواضح أنه يكاد لا يوجد من هو غاضب من أمريكا لهذا السبب، وإنما الأقرب للذهن أسباب وتجارب أخرى عديدة مريرة تتابع حدوثها حتى يومنا الحاضر، الخطر الحقيقي والقاسم المشترك الأعظم بينها يتمثل في نقطتين:
- الغيرية: يسهل على الإنسان أن يطلق الأحكام القاسية على هؤلاء الذين لا يعرفهم ولا تربطه بهم صلة ومودة، كذلك يسهل عليه نسيانهم وتجاهل ظروفهم وقضاياهم، ومن نفس هذا المنطلق يقوم باصطناع الغيرية مع من لا يتوافق مع مصلحته (التي ليس تقديرها صحيحا بالضرورة). نعم هناك فروقات وخصوصية، ويجب ألا نكون نسخة من الاخر، لكن هناك مساحة كبيرة من المشتركات بين الإنسان وأخيه الإنسان مهما اختلف في النشأة والثقافة ولون البشرة.. إلخ. مساحة تكفي لإدراك الاحتياجات الأساسية وتقدير العدل ورفض الظلم. هذه الغيرية الملعونة هي من أحد أكبر الحواجز بيننا وبين السعادة، التي هي ثمرة العدل. عندما نصطنع الغيرية بلا مقارنة دقيقة فإننا نحرم أنفسنا من التعلم، لنعيد تكرار ما وقع فيه الآخرون من أخطاء ونقائص.
- حق القوة: العنف وفرض الأمر الواقع يتزايد من حولنا يوما بعد يوم، بجانب ذلك فإن القوة صارت تفسد في المجتمع يمينا وشمالا، لتهدر الحقوق وتكافؤ الفرص. يتم جعل القوة معيارا للأحقية، فلتكن مالا أو سلطة، قدرة على “التغلّب” لا على التحديات بل وجود نظام عادل من الأساس. ومع تكرار الخروقات للنظام نصير إلى غابة يحكمها قانون البقاء للأكثر قدرة على التكيف، والغلبة للأقوى. قد يعتقد البعض أنهم غير متضررين من ذلك كثيرا كونهم في الطرف “الأقوى” الذي يحصل على ما يريد، لكن لننظر للفكرة من منظور عقلاني: السعادة من ناحية نفسية تنتج من إشباع الحاجات المادية والمعنوية للإنسان وشعوره بتحقيق ذاته، فكم من هذه الفئة حقق نفسه ذاتيا وليس فقط اجتماعيا؟ كم منهم كان يريد ويمكن له أن يكون رائدا في مجال ما ولكنه التحق بمجال آخر يجعله في مركز مالي واجتماعي مستقر ذي أفضلية؟ هل طالت هذه النفس نصيبها من كنز الرقي الأخلاقي ومتعة العطاء أم أنها أنفقت ما لها فيما ستتركه خلفها يوم تفارق عالمنا المحسوس راحلة لعالم الحقائق؟ وكم يضيع من إمكانات المجتمع وتوازنه وأخلاقه نتيجة لكونه منهمكا في سباق محموم حول الارتقاء في السلم الطبقي.
- هل الفلسطينيون عبء على الدول التي هاجروا إليها؟
هي فكرة تتردد في أذهان البعض، هي مثال آخر للغيرية ووضع الفروق بين البشر بلا تمييز، انطلاقا من فهم خاطئ لمعنى الوطن والعقد الاجتماعي المرافق له (الحقوق والواجبات المترتبة على كون الإنسان مواطنا في دولة ما). الأمر الذي يبرر للبعض اعتبار تحويل المواطنة لنوع من الأفضلية والميزة والحق الإلهي، وبالتالي اعتبار الآخر (الأجنبي) منافسا له على الاستفادة، مقاسما له في رزقه -الذي ربما يكون قليلا-، معيقا له عن الانطلاق والتطور تبعا لذلك.
هذا الاتجاه في التعامل مع “الغرباء” تتميز به المجتمعات والعقليات المنغلقة فكريا، وهو بعيد كل البعد عن ميراثنا الثقافي والأخلاقي الأصيل حيث إكرام الضيف وإغاثة الملهوف من الأصول التي يجب أن تراعى. لكن يبدو للأسف أن حب الدنيا ومتاعها (أو سيطرة الفكر المادي النفعي بعبارة أخرة) قد أورث الكثير منا أخلاق الأنانية والفردية والنذالة، بين نذالة المهموم باحتياجاته ونذالة المهموم بطموحاته، بين مثقل بالسعي لتحقيق احتياجاته الأساسية والتغلب على شعوره بالضنك بالترفيه عن نفسه، وبين مطارد لطموحاته وأحلامه الشخصية في الثراء والنفوذ والمكانة.
إن التاريخ والحاضر بهما نماذج لا حصر لها لأناس جاءوا مهاجرين لاجئين لديهم دافع كبير للعمل فأضافوا للمجتمع وللحضارة الإنسانية، عندما أتيحت لهم الفرصة لذلك. وهناك دراسات معاصرة أجريت على تأثير الوافدين -سواء بشكل شرعي أو غير شرعي- على الاقتصاد، وانتهت لأن المحصلة إيجابية[i]. ودعونا لا ننسى أن الكيان الصهيوني قائم على مهاجرين منتجين مجتهدين مع تسليمنا بعدم أحقيتهم في ما ينطلقون منه من أرض واستثمارات. المسألة في نهاية الأمر ليست إلا جودة إدارة للموارد عموما والمورد البشري خصوصا ولوجود العدالة، في تلك الحالة تتحول التحديات لفرص، وفي غيابها تتحول المزايا إلى ضغوط وعيوب!
وحدة المبدأ والمصير تجمع هؤلاء الذي يكررون نفس التجربة بنفس الشروط، سواء أكان كلامنا عن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني ونظرائهما من جهة، أو من الجهة الأخرى على الشعوب التي تتميز بضيق الأفق وغياب النظرة الكلية، فينتهي بها الأمر إلى أن تسلّم مقدراتها بأيديها إلى الطامعين الخبثاء.
إن ما بيننا وبين أبناء فلسطين الحبيبة، وبين إخوتنا في العروبة أو في العرق أو حتى في الإنسانية، أيا كان ما عرض بيننا من اختلاف أو اتفاق، عداوة أو صداقة، هي محبة للخالق الكامل من ثم محبة لأن يستضيء الكون بضوئه الهادي فيتم له ما يليق به من جمال الباطن والظاهر، ولهذا فإننا نحب لكل ما خلق الله العدل. والكيان الذي أسس على الظلم إذا عدَل ينتهي، لكن هذا العدل كفيل بأن يأتي بكيان خير منه. كيان يحارب الظلم وأشكال العنصرية والتمييز كافة. ومن المهم جدا أن نبدأ بأنفسنا، فنعمل على عودة المجتمع بناء يشد بعضه بعضا ونهتم بنشر الوعي والشعور بالآخر والتضامن مع حقوقه، حتى لا نؤكل كما أكل الثور الأمريكي الأحمر.
[i] https://www.youtube.com/watch?v=4XQXiCLzyAw&list=PL8dPuuaLjXtPNZwz5_o_5uirJ8gQXnhEO&index=33
اقرأ أيضاً:
في سبع سنين، النظام والوحدانية
مجبر أم مختار .. الإله بين الرؤية الجبرية والتفويض الكلي للإنسان