إيمان الشخص بنفسه له سحر في التأثير على الناس، ولكن أيعني هذا أنه صحيح؟
النصائح و صلاح الشخص نفسه
بعد أن قفز هذا السؤال لذهنى على إثر مشاهدتى لفيديو منتشر على مواقع التواصل لشخص يصور نفسه و هو ينصح الشباب ما دون العشرين عامة بمجموعة من النصائح وجدتها بالفعل نصائح مهمة ومفيدة لأقصى درجة من ناحية المحتوى و أننى بالفعل وقعت شخصيا فريسة لعدم الوعى بهذه النصائح فقد أهدرت فعلا عشرينيات عمرى وقد فاتنى فيها الكثير، ولكننى وبعد المشاهدة و رغم الاقتناع إلا أن شيئا ما لم أحبه فى هذا الفيديو … وهنا تساءلت إذا كنت مقتنعاً بكلامه و أفكاره، فما سبب عدم حبى أو ارتياحى له إذن ؟!
لماذا لم أحبه؟
و بدأت أسرد الأطروحات بحيادية ومنطقية، فإما إننى:
- لا أحبه لأنه بالفعل ذكرنى بضياع هذه الفترة العمرية بسبب عدم وعي بتلك النصائح ولشدة مقتى لغبائى بإهدار هذه الفترة .
- أو أن عدم ارتياحى ناتج عن نقيصة نفسية بشرية بداخلى مسببة قدرا من الغيرة و الحقد تجاه هذا الشخص بسبب نجاحه فى فهم هذه الحقائق الأمر الذى أدى به قديما لاغتنام هذه الفترة ، و الذى جعله يوجه سديد النصح للناس و جعله محط إعجاب و شهرة و أتباع كثر ، و قد اعتدت أن اواجه نفسى بصراحة و كم من نقائص وجدتها تحركنى و تتحكم بأفعالى فليس هذا بجديد.
الإيمان الكبير بالنفس
إن هناك شيئا فى هذا الشخص و كلامه لا يعجبنى أو لم يقنعنى ولم أستسغه …. وأخيرا و بعد اقتناعى بعدم استبعاد السببين الأولين كجزء من سبب هذا الشعور إلا أننى وجدت بالفعل هناك شيئا ثالثا قد يمثل جزءا كبيرا من السبب .. و هو أن صاحب الفيديو يتكلم بطريقة عاطفية انفعالية تقريرية تنم عن قدر كبير من الإيمان بالنفس أكثر منه بالأفكار … هذا الأداء الذى ينم عن الاقتناع المطلق بصواب النفس و صحة أفكارها بدون أى تشكك في الأمر مما انعكس فى صورة الوصاية الأبوية التى تحتكر الحقيقة والصواب على المتكلم و من يتبعه و الخطأ على من يعارضه.. فلقد تعودت أن الإنسان العقلانى المتحدث بالأفكار يتحدث بهدوء منتظرا منطق الآخر أما المؤمن بنفسه المحتكر للحقيقة فيكون دائما منفعلا يتحدث بما هو مطلق و مسلم به آمرا الناس لا مناقشا لهم ولا ناصحا… و من هنا تساءلت: وما الخطأ إذن؟ هل ثمة خطأ ما فى أن يؤمن المرء بنفسه ؟! .. و الغريب أننى وجدته سؤالا صعبا و مهما !!
هل يجب أن يؤمن الإنسان بقدرات نفسه؟
فى إطار الفرز و إعادة التفكير فى كل الثوابت القديمة رفضت الإجابة التلقائية السريعة المخزنة بوعيي و ذاكرتى … نعم بالطبع يجب أن يؤمن الشخص بنفسه… و بدأت التشكيك و التفكير لماذا؟
وما التجارب المماثلة التى تمثل الواقع وما النتائج؟
… الغريب أننى اكتشفت أنه لا … ليس من الضروري أن يؤمن الشخص بنفسه …
بالعكس من الكارثة أن يؤمن الشخص بنفسه !
لماذا و كيف يؤمن المرء بإمكانيات نفسه؟ يبدأ الأمر منذ التفاعل الأول للشخص مع الحياة يتحسس واقعها و يتلمس الطريق للصواب، وهنا ينقسم الناس لقسمين:
مجموعة الحلول الجاهزة
القسم الأول: مجموعة تعتمد على اتباع الحلول الجاهزة التلقينية من الأبوين و الأهل و المعلمين ورجال الدين و المشاهير و الإعلام، هؤلاء أتباع المذهب النصى فى التعليم و يكون إيمانهم بأنفسهم مبنىا على قدرتهم على الاتباع .. كلما استطاعوا الالتزام بالقواعد التى تلقنوها و محاكاة الأشخاص الذين وجدوهم رموزا، ازداد إيمانهم بأنفسهم وبصحة أفعالهم .. هؤلاء الأشخاص فى الواقع لا يؤمنون بأنفسهم بل يؤمنوا بالآخرين .. الأكبر و الأقدم و الأشهر و الأنجح، ولكنهم للدقة يستمدون شعورهم بالثقة فى أنفسهم و أفعالهم و صحتها من قدرتهم على اتباع قواعد الآخرين مما يلقى فى روعهم وجوب اتباعهم.. و هؤلاء الأشخاص عادة لا يملكون القدرة على التفكير التحليلي و التقييم المنطقى بل يعطلونه إراديا حتى يفقدوه تماما مع الوقت ليفقدوا بعدها أنفسهم فى آخر المطاف.
مجموعة المستقلين فكريا
القسم الثانى: هذا النوع من الأشخاص مستقل الفكر وغير تابع، فيبدأ هذا النوع البداية الصحيحة بالاعتماد على عقله بأن يفكر بمنطق سليم محايد فى كل المعطيات من واقع و تجارب وأشخاص وقواعد ونصوص دينية وعلمية واجتماعية ثم يبدأ فى الوصول للإجابات الصحيحة و الطرق السليمة من وجهة نظره و بغض النظر عن تقييمه لصحة ما توصل إليه و الذى يعتمد على التقييم إما بالمقياس النفعى أو بالمقياس القيمى .. فهناك من يرون أنهم توصلوا للمنطق السليم طالما أدى بهم إلى المنفعة و هناك من يرون أن سليم المنطق يكون فى تحقيق قيم الحق و العدل و الخير … و بغض النظر عن مقياس التقييم فهذا موضع نقاش آخر … إلا أن فى اللحظة التى يبرهن المرء لنفسه على قدرته على الوصول للصواب اعتمادا على عقله و قدراته و بصورة متكررة … عند هذه النقطة تحديدا يحدث الإيمان بالنفس …
و هنا يحدث التحول… فيتحول الشخص من إنسان مؤمن بسلامة التفكير العقلانى و السليم لشخص مؤمنبإمكانيات نفسه … نفسه ذاتها .. شخص يؤمن بصحة ما تمليه عليه نفسه… فتتحول سيطرته العقلية الواعية على نفسه إلى سيطرة نفسه عليه … ليبدأ تدريجيا ولا شعوريا فى التحول من الاعتماد فى استقاء قناعاته و محركاته على عقله المنطقى التحليلى ليعتمد على هواه و مزاجه… هنا تبدأ الكارثة تدريجيا …
فما إن يؤمن الشخص بنفسه حتى يتحول لكارثة لنفسه و لكل من حوله … شخص غير قابل للاقتناع … شخص غير قابل للنصيحة أو للنقاش … شخص يفعل ما يريد … ولا يراجع نفسه فيما تمليه عليه..
الشماعة الجاهرة للإنسان لتَبْرِئة نفسه
و تكتمل ملامح الإيمان بالنفس عندما يبدأ المرء فى منطقة أفعاله بدلا من فعل ما هو منطقى بمعنى أن يبدأ بفعل ما تسوله له نفسه و ترغب فيه ثم يقوم بتركيب المنطق و تفصيله على أفعاله … فبدلا من أن يقيم أفعاله بنتائجها و يقيم النتائج بقدر المنفعة المادية و الأخلاقية القيمية ..يبدأ فى تبرير أفعاله و نتائجها… فإذا أصابت أفعال المؤمن بنفسه كان سبب إصابته هو شدة ذكائه و سعة إدراكه وحيله و عظيم تجاربه و نفاذ بصيرته و بعد نظره ….أما إذا أخطأ يكون السبب دائما إما غباء الآخرين و شرهم أو سوء الظروف أو مشيئة الأقدار الإلهية أو أى شئ بخلاف أنه أخطأ …. فالمؤمن بنفسه لا يخطئ…وربما لا يتقبل النصائح … لا يخطئ أبدا !
فإذا كان الإيمان بالأشخاص وأفعالهم بدلا من الإيمان بالأفكار ونتئاجها من أكبر الأمراض البشرية و الآفات الإنسانية الفردية و المجتمعية و التى نحيا تبعاتها و نتعذب بتخبطنا بسببها فى مجتمعاتنا وأوطاننا … فإن إيمان الشخص بنفسه يمثل أسوء أنواع مرض الإيمان بالأشخاص و أبشعها و أكثرهم ضررا على الإطلاق … فهذا الشخص يتحول تلقائيا بعد الإيمان بنفسه إلى عبادتها .. فأى ديكتاتورية و استبداد سيكون عليها هذا الشخص بعدئذ ؟!
هتلر نموذج للإقتناع بقدرات نفسه
و التاريخ يمتلئ بمثل هذه الأمثلة من المؤمنين بأنفسهم الذين جلبوا على أنفسهم و أقوامهم الخراب بداية من فرعون وصولا لهتلر و الذى اندهشت كثيرا عند قراءة كتابه (كفاحى)، فهو ليس هذا المجنون الأبله الذى تصوره لنا القصص و الأفلام .. هذا الشخص يمتلك من المنطق و العقلانية و الرؤية قدرا لا يستهان به .. و أكاد أجزم أنه كتب هذا الكتاب فى مرحلة ما قبل التحول للإيمان الكامل بالنفس.. عندما كان شخصا متأثرا بواقعه و هموم بلاده و ما حدث ببلاده فى الحرب العالمية الأولى من الخارج و ما فعله اليهود من تلاعب بوطنه من الداخل… أو على الأقل كان لا يزال فى أولى درجات التحول وبداية أطوار الإيمان بالنفس و الذى انتهى بعد اكتماله بعبادتها وأمر الآخرين بعبادتها .. و الذى بدأ بعده فى نرجسيته و تقديس شخصه و المضى فى قراراته الكارثية المدمرة.
فالمرء لا يجب عليه أن يؤمن بنفسه إطلاقا بل يؤمن فقط بالمنطق فى تقييم كل أفعاله بناء على نتائجها و تقييم النتيجة بناء على ما حققته من منفعة و قيم الحق والعدل و الخير، وهذا هو نفس معيار تقديم النصائح .
ما هو الحل ؟
و يبقى هنا أن أوضح منظورى فى الإيمان بالنفس و منعا للالتباس و الخلط أنه لا يعنى الثقة بالنفس ولا يعنى احترام النفس والاعتداد بها و بحقوقها … فأما الثقة بالنفس فيجب أن تنبع من التزامها بالمنطق السليم فى البحث وتقييم النتائج دوريا فى كافة مناحى الحياة.. فإذا رأى المرء من نفسه هذا الالتزام بالمنطق و التقييم العقلانى المتكرر الدائم لأفعاله ونتائجها وثق بها …. فالثقة هنا ليست بالنفس ولكن بالمنطق .. وأما احترام النفس و حقوقها فهو حق أصيل للإنسان و مصدره إنسانيته ذاتها أولا ثم نجاحاته و إنجازاته فى الدنيا ثانيا … وهنا يجدر بى أن أوضح اقتناعى بأحقية الشخص بالفرح و الفخر بنجاحاته و ما حققه من طيب الأمور و مفيدها فهو حق أصيل للمرء و من دوافع البشرية النافعة فإنه لا يستوى من يعمل و من لا يعمل ولا يستوى من يعمل فيحقق حسن النتائج و من يعمل ولا يحقق شيئا… فيبقى احترام النفس والاعتداد والاعتزاز بها و إكرامها و السعى لنوال حقوقها من أهم سمات العقلاء الأسوياء و تبقى الثقة فى النفس مصدرها المراجعة الدائمة لها و تقييم أفكارها وأفعالها بالمنطق السليم لا تركيب المنطق و تفصيله على واقعها وأفعالها، وقتها سيكون أهلا لأن يقدم النصائح.
اقرأ أيضا:
العلوم النظرية والعلوم التطبيقية.. أيهما أهم ؟
التعميم الأعمى يلاحقنا .. لماذا هو أعمى ؟ وكيف لنا أن نتخلص منه ؟
القوى الكامنة في الإنسان .. لماذا نحن مميزون بالعقل (1)
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.