مقالات

هل كل ما نقرؤه في المجلات العلمية معلومات ونتائج صحيحة ودقيقة ؟

قد تعتقد أنني اليوم سأملأ رأسك بالإحصائيات عن جودة ورقي البحث العلمي وعن تفاصيل عملية النشر في المجلات العلمية، وأهمية معامل التأثير (impact factor) والمعامل “إتش” (H-index) في تمييز البحث العلمي الجيد من السيئ، ولكن الكثير بالفعل من الكتاب النشطين والمدققين أكثر مني بكثير في هذه التفاصيل قد قاموا بذلك، وربما لن تعيرني انتباهك لو حاولت أن أتكلم بنفس تلك الطريقة، وهذا لن أفعله بالتأكيد.

أما ما سأفعله اليوم هو أن أعرض قصة لي مع مجلات البحث العلمي، وليست لمجلات ذات وزن خفيف في عالم البحث العلمي ولكن لها رقيها وقيمتها كما تبين أرقامها ومعاملاتها المعتمدة، وكيف أنني في أحد المرات (من ضمن مرات أخر كثيرة) مع مجلات علمية مختلفة وجدت معلومات فاسدة قد أوصفها بالمضللة وقد أوصفها بالأخطاء التي سها عنها كتابها،

موضوع رسالة الدكتوراه

بدأت رسالة الدكتوراة في عام 2014، وكانت نقطة التخصص في البتروكيماويات في تفاعل مشهور وقديم ولكن مازال يحتل مكانة جيدة في أروقة البحث العلمي ويمكن ببعض الجهد لباحث مبتدئ مثلي أن ينتج خلال فترة إنهاء الرسالة بحثًا أو بحثين في هذا الموضوع، كان الموضوع هو تفاعل الـ “فيشر-تروبش” (أعتذر لو استخدمت بعض الألفاظ المعقدة وأسماء العلماء الغربية ولكن هذا ما يفرضه طبيعة الموضوع)، هو تفاعل مشهور جدا تاريخيا ويحبه دارسي البتروكيماويات.

والفكرة ببساطة هي إنتاج الوقود السائل من مواد خام غازية غنية بأول أكسيد الكربون وغاز الأيدروجين، ويمكن من خلال استخدام عوامل محفزة مختلفة أن تنتج من هذا التفاعل منتجات متنوعة جدا، فقد تنتج الديزل أو البنزين أو الغاز الطبيعي أو المواد الأولية للبلاستيك (المونمرات) أو الكحوليات، وكل هذا التنوع فقط بتغيير في نوع المادة الحفازة أو ظروف التفاعل من ضغط ودرجة حرارة ومعدل سريان الغاز.

العلم وحق التعليم

بصراحة لا أحب كمدرس للكيمياء تعقيد الأمور حتى على الدارسين المتخصصين، فالشارح الجيد هو من يبسط المعلومة ليستوعبها المتعلم بسهولة ويسر فيعشق العلم ويقدسه في قلبه، ولست من محبي التفلطح والتقعر والتحدب حول متشابهات القضايا والألفاظ لتعقيد الطلبة كما يذهب بعض الكهنة في معابد العلوم التطبيقية للأسف، هو مرض مركب من الكبر والإحساس بالنقص والتأخر في العلم يفتك بجامعاتنا الأهلية العظيمة التي بنيت من عرق وتعب الشعب، ونتيجة لعدم تحمل أعضائها مسؤولية هذه المؤسسات العظيمة فإنها تتحول شيئا فشيئا لمستنقعات استثمارية للرأسمالية الخبيثة التي تحاول القضاء على حق التعليم العالي للفقراء والمستضعفين.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ذلك الحق الذي نادى به الكثيرون من رواد الفكر في مصر كأمثال طه حسين وعباس العقاد، وحملوا لواء هذه المعركة القاسية حتى نجحوا أخيرا أن يجعلوا العلم حق للفقير كالماء والهواء والطعام، بعد أن كان الجهل في هاجس البعض كالخديوي سعيد هو ترياق العلاج من صداع الفقراء والمستضعفين لأن “الأمة الجاهلة أساس في الحكم من الأمة المتعلمة” كما كان يقول، أو كما قال حفيده توفيق “ما أنتم إلا عبيد إحساننا…” مجرد مقتطفات من التاريخ توضح فداحة الجريمة التي تحدث اليوم بسحب الجامعات الأهلية وحق التعليم العالي من يد الفقراء، وهذه الجامعات في الأصل ملك للشعب قد بنيت بتبرعاتهم التي جمعت لتبني هذه الأصرح العلمية على أمل أن يكون العلم سلاح الشعب الوحيد والأخير ضد المستعمر والمستكبر.

موضوع العوامل الحفازة

المهم نعود لموضوع البحث العلمي والعوامل الحفازة، فالعوامل الحفازة في تصوري مثل الخميرة التي تضعها الوالدة -سلم الله أيديها- على العجينة لكي تتضخم الكعكة وتصبح رقيقة سهلة المضغ وأمتع في الأكل، كذلك هو العامل الحفاز يساعد على زيادة معدل التفاعل من دون أن يتدخل هو نفسه في التفاعل الذي يحدث أو يستنفذ فيه، وكانت مهمتي في هذه النقطة إنتاج عامل حفاز جديد على الإنتاجية الذي حدث.

قرأت عددًا لا بأس به من الأبحاث المنشورة عن الموضوع لأستعد له، كانت بعض تلك الأبحاث تحضر نفس المادة الحفازة ولكن تستخدمها لتفاعلات أخرى غير التفاعل الذي سأعمل عليه، والبعض الآخر يجري نفس التفاعل الخاص بي ولكن بمواد حفازة مختلفة، والبعض الآخر يعمل على نفس التفاعل بنفس المادة الحفازة ولكن عند ظروف تشغيل مختلفة، وبدأ تناضح الأفكار وبدأت تجارب الإنتاج والتشغيل والإصلاحات والتركيبات في ملحمة استمرت حتى الآن ثلاث سنوات، كانت فيها النجاحات والمحاولات الفاشلة والعراكات والمزاح والضحك والبكاء والسهر والعمل الثقيل وأيام أخرى بضغط عمل خفيف جدا لا يكاد يذكر.

المقالة المنشورة في أحد المجلات المرموقة

كانت هناك مقالة علمية منشورة في مجلة اسمها “ACS Catalysis” وهي مجلة مشهورة في مجال الكيمياء التحفيزية، كنت أشعر وأنا أقرؤها أنها المقالة “السوبر” كنا نضعها في كل نقاشاتنا الأسبوعية كمثال يجب تقليده لأن نتائجها كانت مبهرة، ولم نكن نشعر أننا يجب أن نشكك بها خاصة وأنها منشورة في مجلة محترمة من المجلات التي يتمنى أي باحث علمي في بداية مشواره العلمي أن ينشر بها، فكيف يخطر ببالك أن تشكك بها؟

المهم وعلى مدار سنة تقريبا كانت تتكشف لنا شيئا فشيئا عيوب المقال وانتهى بنا الحال باستنتاج أن المقالة مجرد تقديم جيد بأسلوب لغوي محترم لأرقام تثبت إعادة التجارب بها أكثر من 30 مرة بنفس الطريقة، وربما بعد فقدان الأمل ببعض التعديلات والتطويرات من بعض القراءات الأخرى هنا وهناك، أثبتت كل تلك المحاولات لي أن هذه الأرقام المبهرة لم تحدث إلا في مخيلة الكاتب، وربما لولا أن مجموعة المؤلفين تشمل بعض الأسماء المرموقة في هذا المجال ما كانت نشرت من الأصل، وفوجئت هنا أنه ربما يكون النشر العلمي بالمحسوبية وبمرموقية الأسماء، فمهما كان البحث منمقًا ومكتوبًا بشكل جيد وصادق، فإن فرصتك في النشر من دون بعض الأسماء المرموقة من جامعة كذا أو معمل كذا أو معهد كذا ستكون فرصة ضئيلة جدا.

وكأن مقالات البحث العلمي تحولت لنوع من المقالات الذاتية كمقالات الأدب المرسلة والعاطفية والتي لا تشد انتباه القارئ كثيرا لمدى صدق محتواها العلمي أو الفائدة من وراء التغطية الصحفية بها بقدر ما يحاول بعض الكتاب أن يزيدوا من عدد قارئيهم عن طريق بعض الهزل السخيف أو الإسفاف المفسد أو ربما بعض الخطابات التي تركز على العاطفة والشهوة والغضب فقط دون الانتباه للأثر السيئ الذي يتأتى على المجتمع من وراء تلك الكتابات.

رسالة إنسانية أم تجارة عالمية ؟

كذلك للأسف وبنوع آخر من نفس النرجسية تلوث النشر العلمي، فأصبحت المجلات في كثير من الأحيان تهتم فقط بالعنوان المرموق أو الكتاب المشهورين الذين سيجعلونك تشتري العدد أو تبحث عنه وباهتمام شديد، أما البحث من أجل البحث أو التوثيق الحقيقي للمعلومات والخطوات العلمية لم يعد الهدف الذاتي، فتحويل الحكم على نجاح الكتاب أو المجلات ببعض الأرقام الإحصائية أدى لنفس النتيجة التي حدثت مع كثير من الأمور الأخرى التي أفسدتها النظرة المادية الإحصائية الكمية البحتة، فتحول الاهتمام للكم لا للكيف، أو على الأقل أصبح الاهتمام بالكيف بالعرض وليس بالذات، معتقدين أن تعميق وتعقيد المعاملات الإحصائية سيصلح الأزمة ويحسن من جودة الكيف دون أي حاجة للتدخل أو الاهتمام ببناء شخصية الكادر العلمي نفسه وتنسيق أخلاقياته البحثية وسلوكياته وأهدافه بطريقة تمنع مثل تلك الفضائح من الجذر والأصل.

إن الأمر لا يمكن أن ينصلح من أساسه وأنت تأتي بالباحث العلمي وتضعه في موقف الضغط النفسي والذهني أنك “لن تتقدم في عملك أو بالأصح لن تستمر في عملك لو لم تنشر الكم الفلاني من الأبحاث في السنة”، هنا يتحول اهتمام الباحث من الوصول للنتائج الصحيحة لنشرها وتعميم الفائدة للبشرية والمجتمع لنظرة أكثر أنانية، فهو يحاول “تجميل وتحوير” نتائجه بدرجة تجعلها مقبولة عند النشر في المجلات التي لن تقبل إلا بمواضيع “الفرقعة” الإعلامية في مجال البحث العلمي التي تضمن تضخيم عائدات “شركات” النشر العملاقة تلك وتزيد من عدد قرائها،

فالموضوع لم يعد “رسالة إنسانية” كما يتشدق البعض بل مجرد عملية تجارية وإعلامية، من سينشر الخبر العلمي الجديد الذي يجذب الانتباه في الأوساط الأكاديمية؟ فكما أن عامة المجتمع لديه مرض فساد الإعلام الاجتماعي والأخلاقي فنحن أيضا في المجتمع الأكاديمي نواجه أزمة فساد الإعلام العلمي وفساد عملية النشر العلمي بعد أن أصبح يخدم مصالح أصحاب شركات النشر العملاقة تلك والتي لا يهمها إلا الأرباح وعدد القراء والمعاملات الإحصائية الضخمة فقط.

لا نعمم ولكن

لكن ليس كل هذا ما يشغل بالي أو تفكيري، فكل مجال عمل له عيوبه، خاصة مع تفشي النوازع المادية الأنانية والرأسمالية المتوحشة في كل جوانب حياتنا، لكن ما يدهشني بعد كل ذلك أن نذهب نحن لنفس تلك المجلات العلمية؛ لا لنستقي منها علم الكيمياء أو الفيزياء أو الأحياء أو الرياضيات هذه المرة، ولكن لكي نتعلم منها أمور رؤيتنا الكونية وعقائدنا في واجب الوجود والكون والخلق،

لا نعمم ولا نقول أبدا ولا ندعي أو نجرؤ أن نتهم بأن “كل ما في تلك المجلات كذب” لكن يمكننا مع تراكم الأدلة بشكل شخصي لكل شخص يعمل في محال البحث العلمي وبشكل عام من خلال إحصائيات مصداقية البحث العلمي (وهو من الفضائح المشهورة جدا في الغرب لدرجة أن مقدم البرنامج الساخر “جون أوليفر” قد قدم أحد الحلقات الساخرة حول ذلك الموضوع ويمكنك مشاهدة المقطع هنا في هذا الرابط)، فتراكم كل تلك الأدلة يضطرنا لأن نعترف وبكل يقين أن “بعض ما ينشر في تلك المجلات العليمة كذب ولا يمت للعلم بصلة” فهي أقرب للتهيؤات أو الأوهام في صدور كاتبيها عن كونها مادة علمية جادة.

هل تصلح كمرجع للأفكار ؟

فكيف يمكننا وبالاعتماد على مصدر يشوبه هذا الخلل في جودة الإخراج والتحقيق والتدقيق أن نبني على أساس كلامه رؤيتنا الكونية أو اعتقادتنا في أمور الخلق والخليقة والبعث والموت وما إلى ذلك من الأمور التي يتكلم فيها بعض الدجالين أمثال “دوكينز” ولكن بطريقة قد تظهر أنها علمية بينما هي خالية في مواضع كثيرة من أي ركائز للمنطق البسيط، ناهيك عن كونها مملوءة بأحقاد الكاتب الشخصية على أي مظاهر تعاكس رؤيته عن المادة والتطور والإلحاد الشخصية التي يقحمها في عقول مستمعيه.

فكيف لنا ونحن أصحاب الفلسفة المختلفة والرؤية المختلفة في الوجود أن نسمح لعقولنا أن تتلاعب بها منابر الغزو الثقافي الغربي الذي لم يعد بعرف كيف يسير؟ أو لماذا يسير؟ أو ما هي النهاية من سيره لاهثا وراء أحلامه بالمجد المادي المتطرف الزائف؟ ذلك السعي الذي يلغي وينسف كل ما هو أخلاقي أو متعالي عن المادة أو مترفع عنها، هذا كله بعد أن أثبتنا أن الباب مفتوح للتزييف الإعلامي حتى في عالم النشر العلمي كواقع يواجهه مثلي الآلاف من الباحثين العلميين الذين هم ربما أفضل مني وأكثر تبحرا في دهاليز هذا العالم المتشابك.

اقرأ أيضاً:

لماذا يتقدم الغرب ؟

ما هو العلم ؟

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.