مقالات

نظرية التطور؛ بين التاريخ والفلسفة .. أولًا: البحث التاريخي

ما هي نظرية التطور ؟

” نظرية تطور الأحياء” هي نظرية تقول إن الكائنات الحية لم تنشأ بشكلها المعقد الحالي مرة واحدة بل تطورت من موجودات أبسط منها.

نظرية التطور في العصر القديم:

وهي بهذا المعنى قديمة قدم الفلسفة الإنسانية الواصلة لنا، فإن كان “طاليس” يُعد أول الفلاسفة في التاريخ الواصل لنا فإن تلميذه “أنكسمندر” قد قال بالتطور: ” أما الأحياء فقد تولدت في الرطوبة بعد التبخر؛ أي في طين البحر، وهو مزاج من التراب والماء والهواء، فكانت في الأصل سمكا مغطى بقشر شائك حتى إذا ما بلغ بعضها أشده نزح إلى اليابس وعاش عليه ونفض عنه القشر، والإنسان لم يوجد أول ما وجد على ما نراه اليوم طفلا عاجزا عن توفير أسباب معاشه وإلا لكان انقرض، ولكنه منحدر هو أيضا من حيوانات مائية مختلفة عنه بالنوع حملته في بطنها زمنًا طويلا إلى أن نمت قواه وتم تكوينه، فاستطاع أن يقف على اليابسة وأن يحفظ حياته بنفسه”[1].

وقد قال “هرقليطس” من فلاسفة الطبيعة قبل “سقراط” بالتطور أيضًا: ويتكاثف بعض النار فيصير بحرا، ويتكاثف بعض البحر فيصير أرضا، وترتفع من الأرض والبحر أبخرة رطبة تتراكم سحبًا، فتلتهب وتنقدح منها البروق وتعود نارا أو تنطفئ هذه السحب فتكون العاصفة وتعود النار إلى البحر، ويرجع الدور، فالتغير يجري في طريقين متعارضين: طريق إلى أسفل وطريق إلى أعلى مع بقاء كمية المادة الأولى أو النار واحدة، ومن تقابل هذين التيارين يتولد النبات والحيوان على وجه الأرض”[2].

نظرية التطور في العصر الوسيط:

والأمثلة السابقة أدلة على وجود نظرية التطور في العصور القديمة، فإن تقدمنا تاريخيا إلى ما يسمى بالعصور الوسطى أوروبيا أو في العصر الذهبي للإسلام نجد الفيلسوف المسلم “الفارابي” يقول بالتطور بشكل واضح: ” فتختلط أولا الأسطقسات (التراب والهواء والماء والنار) بعضها مع بعض، فيحدث من ذلك أجسام كثيرة متضادة، ثم تختلط هذه المتضادة بعضها مع بعض فقط، وبعضها مع بعض ومع الأسطقسات، فيكون ذلك اختلاطا ثانيًا بعد الأول، فيحدث من ذلك أيضا أجسام كثيرة متضادة الصور..ولا تزال تختلط اختلاطا بعد اختلاط قبله، فيكون الاختلاط الثاني أبدا أكثر تركيبا مما قبله إلى أن تحدث أجسام لا يمكن أن تختلط، فيقف الاختلاط.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فبعض الأجسام يحدث عن الاختلاط الأول، وبعضها عن الثاني، وبعضها عن الثالث، وبعضها عن الاختلاط الآخر. والمعدنيات تحدث باختلاط َ أقرب إلى الأسطقسات وأقل تركيبا، ويحدث النبات باختلاط أكثر منها تركيبا… والحيوان غير الناطق يحدث باختلاط أكثر تركيبا من النبات، والإنسان وحده هو الذي يحدث عن الاختلاط الأخير”[3].

نظرية التطور في العصر الحديث:

وفي العصر الحديث قال عدد من الفلاسفة أيضًا بالتطور، يقول “لا مارك”: “البيئة بتربتها وغذائها ومناخها تولد في الحيوان حاجات مختلفة، فيبذل مجهودًا لإرضاء حاجاته، وينتهي مجهوده المتصل إلى تعديل الأعضاء، بل إلى نقلها من موضع إلى آخر من جسمه فإن استخدام العضو ينميه، وعدم استخدامه يهزله أو يضمره بالتدريج، والوراثة تنقل العضو على حاله من النمو أو الهزال أو الضمور”[4].

أما “داروين” فقد أخرج نظرية التطور في كتابه “أصل الأنواع – 1859” ثم أيدها بكتاب عنوانه “تغير الحيوان والنبات في حال الدجن -1868” ثم طبقها على الإنسان في كتابه “تسلسل الإنسان والانتخاب الطبيعي- 1871” وعالج على مقتضاها مسائل نفسية في كتاب “التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوان – 1872”.[5]

فانتهى إلى أن الأنواع الحالية يمكن أن تفسر بأصل واحد أو ببضعة أصول نمت وتكاثرت وتنوعت في زمن مديد بمقتضى قانون الانتخاب الطبيعي أو بقاء الأصلح [6].

يقول د. يوسف كرم: “وفي كتاب “أصل الأنواع” ترك “داروين” مسألة أصل الإنسان معلقة، ولكنه عاد فرأى أن ليس هناك من موجب لاستثنائه من قانون التطور. وهو يصرح بذلك في كتاب “تسلسل الإنسان” ويقول بأن الفرق بين الإنسان والحيوان فرق بالكم أو الدرجة فقط، وأن المسافة بين القوى الفكرية لحيوان من أدنى الفقريات والقوى الفكرية لقرد من القردة العليا، أكبر من المسافة بين القوى الفكرية في القرد وبينها في الإنسان”[7].

وممن قال بالتطور أيضًا في العصر الحديث “هربرت سبنسر” بل وفسر الأخلاق الإنسانية والتجمعات الحضارية بالتطور أيضًا: “إن الخلقية هي هذه السيرة في المراحل الأخيرة من التطور. ولما كان قانون تطور الكائن الحي الملاءمة بينه وبين بيئته، كما نشاهد في سلم الأحياء، كانت السيرة الإنسانية أو الأخلاق جملة الأفعال الخارجية المتجهة مباشرة أو بالوساطة إلى صيانة الحياة وتنميتها. ومن شأن تطور الإنسان وتقدم الحضارة تقسيم العمل بين الأفراد واستفادتهم بعضهم من بعض، فالتعاون الاجتماعي شرط ضروري لنمو الحياة الفردية، لأن به يتمكن كل فرد من تحقيق غايته الخاصة”[8].

شيوع نظرية “داروين”:

إن كانت نظرية التطور قديمة وشائعة في الأوساط الفلسفية هكذا، فلماذا اكتسبت أهمية قصوى مع “داروين” وبعده؟

لهذا عدة أسباب، منها أن داروين قد دعم طرحه بملاحظات علمية جمعها من رحلته حول العالم، فأعطى للنظرية بعدا علميا. ومنها -وهو الأهم- هو أن الظروف الفكرية كانت مهيأة جدا لنظرية “داروين”، فكثير من الأفكار عندما تطرح في ظروف معينة يتم مقابلتها بالرفض، لكن عندما تعرض في ظروف أخرى تلقى تأييدا وصدى واسعا، فحتى نظرية دوران الأرض حول الشمس لا العكس نظرية قديمة أيضًا اكتسبت زخما واسعا أيضًا في العصر الحديث.

فقد جاء “داروين” والفلسفة المادية تقطع خطوات واسعة للهيمنة على الساحة الفكرية بل وعلى الحياة ككل في الغرب، وكانت الفلسفة المادية بحاجة لنظرية تفسر نشأة الحياة بعيدا عن النظريات الإلهية، كما كانت في حاجة لأن تكون هذه النظرية مدعومة بملاحظات حسية وتجريبية للتوافق مع منهج الفلسفة المادية الصاعدة، وكان “داروين” هو من قدم هذه النظرية فاحتل مكانته واكتسب سمعته المعروفة عالميًا الآن.

لكن ما رأي العقل في نظرية التطور؟ أو كيف يمكن تناول النظرية فلسفيا بشكل منطقي؟

هذا هو موضوع المقال القادم.

نظرية التطور؛ بين التاريخ والفلسفة .. ثانيًا: البحث الفلسفي

نظرية التطور؛ بين التاريخ والفلسفة … ثالثًا: البحث الفلسفي (2)

نظرية التطور ؛ بين التاريخ والفلسفة … رابعًا: البحث الأيديولوجي

مراجع للاستزادة في البحث التاريخي:

  • أبو نصر الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2013.
  • يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، مكتبة الدراسات الفلسفية، القاهرة، ط5.
  • يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2014.

[1] تاريخ الفلسفة اليونانية – يوسف كرم – مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة – القاهرة – 2014 – ص 28.

[2] المصدر السابق ص 31.

[3] آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها – الفارابي – مؤسسة هنداوي – القاهرة – 2013 – ص 43و44.

[4]  تاريخ الفلسفة الحديثة – يوسف كرم – 279 – مكتبة الدراسات الفلسفية – القاهرة – الطبعة الخامسة – ص300.

[5] المصدر السابق ص351.

[6] المصدر السابق ص 352.

[7] المصدر السابق ص 353.

[8] المصدر السابق ص 362.

أحمد عزت

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا