نظرية التطور؛ بين التاريخ والفلسفة … ثالثًا: البحث الفلسفي (2)
تناولنا في المقال الأول من هذه السلسلة عرضًا تاريخيًا لنظرية التطور ومن قال بها من القدماء والمحدثين، وفي المقال الثاني تناولنا نظرة فلسفية لنظرية التطور من ناحية علاقتها بالأسباب المادية والمعنوية الإلهية، وفي هذا المقال نستمر في التناول الفلسفي للنظرية، وخاصة علاقة نظرية التطور بنشأة الحياة ومولد الإنسانية.
سر الحياة:
ما الحياة؟
توصف الأجسام التي تتحرك من تلقاء نفسها -كالنباتات والحيوانات- والأجسام التي تتمتع بالإدراك -كالحيوانات والإنسان- بأنها حية، هذا الوصف يطلقه عليها الفلاسفة والعلماء كما يطلقه عليها العامة.
ولو كانت الحركة والإدراك من صفات الأجسام لوجدت في كل الأجسام، فلا بد إذن من تميز هذه الكائنات بشيء ما عن باقي الأجسام.
ولأن كل حادث لا بد له من سبب كما سبق، فكل حركة لا بد لها من سبب، فلا بد من وجود سبب لحركة هذه الأجسام التي تتحرك من تلقاء نفسها.
فمثلا حركة كرة الجولف سببها المضرب، وحركة المضرب سببها عضلات اليد، وحركة عضلات اليد سببها حركة الشحنات في الأعصاب، وحركة الشحنات في الأعصاب سببها حركة الشحنات في خلايا المخ، لكن لماذا تحركت هذه الشحنات في المخ؟ لا بد من سبب.
فبدون هذا السبب الأول لن يوجد السبب الثاني فالثالث ولن توجد الحركة في النهاية.
فلا بد من سبب لحركة الأجسام التي تتحرك من تلقاء نفسها، وهذا السبب يستحيل أن يكون جسما متحركا، لأنه إن تحرك فسيحتاج لجسم آخر يكون سبب حركته، وهكذا إلى ما لا نهاية، فلن يوجد السبب الأول أي لن توجد الحركة في النهاية كما سبق.
فوجود الحركة المادية التلقائية في هذه الأجسام دليل على وجود سبب أول غير مادي وغير جسدي، وهو ما يسميه البعض بالنفس أو بالروح.
فالبراهين العقلية والفلسفية على وجود النفوس أو الأرواح كثيرة متعددة.
ولأن الروح أو النفس غير مادية فيستحيل أن تنتج من التفاعلات والتركيبات المادية، لأن المادة لا ينتج عنها غير المادة[1]، وفاقد الشيء لا يعطيه، وهذه بديهية عقلية لها تطبيقات متعددة، مثل أن مقدار المادة والطاقة الداخلين في تفاعل كيميائي يساويان نفس المقدار الخارج من التفاعل، والطاقة والمادة في وسط فيزيائي مغلق كميتهما ثابتة، فلا يمكن أن تتحول المادة لشيء معنوي غير مادي.
فلا بد للنفوس والأرواح من أسباب غير مادية هي التي أدت لوجودها ولارتباطها بالأجساد، فنظرية التطور إن فسرت نشأة أجساد الكائنات الحية فهي لا تفسر نشأة الحياة فيها، ولا تفسر وجود النفوس والأرواح وارتباطهم بالأجسام.
النفس الإنسانية:
والإنسان كباقي الكائنات الحية يتمتع بالحركة الذاتية والإدراك، ويشترك مع الحيوانات في الحركة الإرادية والإدراك الحسي والذاكرة؛ لكنه يتميز عنهم جميعًا بامتلاكه نوعا مختلفا من الإدراك، وهو الإدراك العقلي.
والإدراك العقلي هو الذي يدرك المعاني الكلية المعنوية غير المادية، مثل معنى العدل والحب والمساواة والرحمة، ومعنى الجمع والطرح والضرب والقسمة والواحد والاثنين، ومعنى الإله والخلق والغاية، فهذه معانٍ عامة -أي كلية- تنطبق على أشياء كثيرة، فمعنى العدل ينطبق على كل موقف يتم فيه إعطاء كل ذي حق حقه، ومعنى الواحد ينطبق على كل فرد، وهي معاني غير مادية فالعدل ليس شيئا ماديا له طول وعرض وارتفاع ووزن، بل هو شيء معنوي.
وهذا الإدراك العقلي هو الذي يمكّن الإنسان من امتلاك المعارف والعلوم والخطط المتنوعة والمختلفة، ويمكنه من امتلاك القدرة على التحكم في باقي الكائنات غير العاقلة، ويمكّنه من القيام بالسلوكيات الاختيارية أي المبنية على حكم وتوجه عقلي، وهكذا.
فالإنسان متميز عن باقي الكائنات في عالمنا المادي تميزا واضحا وظاهرا، إذ يمتلك شيئًا لا يمتلكونه وهو العقل، وليس الأمر مجرد اختلاف في الدرجة كما يذهب “داروين”.
فإن كان البعض يحاول معاندًا تفسير الحركة والإدراك في النباتات والحيوانات تفسيرا ماديًا خاطئًا فإن الإدراكات المعنوية غير المادية في الإنسان تجعل موقفه أصعب بكثير، لأن كونها معنوية غير مادية أوضح بكثير.
نظرية “داروين” والفلسفة المادية:
نظرية “داروين” وتطبيقاتها التي نتجت عنها فيما بعد هي أحد إنتاجات الفلسفة المادية، والتي احتلت موقعا مهما في هذه الفلسفة للأسباب سابقة الذكر في المقال السابق.
ولقد حاولت الفلسفة المادية كثيرًا أن تفسر نشأة الكون والحياة بدون إله، وقد عجزت عن هذا بشكل مستمر، ومثال ذلك طرحهم المغلوط لنظرية التطور والتي اتضح لنا بالبحث الفلسفي عجزها عن إثبات ما يحاولون إثباته.
أيضًا تفتقر الفلسفة المادية للتفكير المنطقي، بل أصبحت مبنية على شذرات تجريبية مع كثير من الأقوال غير العقلانية وغير الثابتة أو الأكيدة، فينتج عن ذلك الكثير من التخبط، فتخالف البديهيات العقلية وأساسيات العلوم التجريبية نفسها كما اتضح في هذا البحث.
أخيرًا فإن التجربة العلمية واستخدام الحس في البحث كما تفعل الفلسفة المادية لا يمكن أن يتم دون استخدام العقل، فالقيام بالتجربة العلمية مبني على البديهيات العقلية كما سبق، وإثبات صحة الحواس وتفسير ما تشاهده والحكم عليه يحتاج للعقل كما اتضح.
نظرية التطور ؛ بين التاريخ والفلسفة … رابعًا: البحث الأيديولوجي
مراجع للاستزادة في البحث الفلسفي:
- أبو الوليد بن رشد (الحفيد)، تلخيص ما بعد الطبيعة، ترجمة وتحقيق د. عثمان أمين، القاهرة، مطبعة البابي الحلبي، 1958م، ط1.
- أبو علي بن سينا، الإشارات والتنبيهات، مع شرح نصير الدين الطوسي، تحقيق د. سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة، 1992م، ط3.
- أبو علي بن سينا، النجاة في المنطق والطبيعيات والإلهيات، تحقيق محمد عثمان، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 2013م، ط1.
- أبو علي بن سينا، عيون الحكمة، حققه وقدم له عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات بالكويت ودار القلم ببيروت، 1980م، ط2.
- محمد عبده، رسالة التوحيد، تحقيق: محمود أبو رية، دار المعارف، القاهرة، ط6.
- يوسف كرم (دكتور)، الطبيعة وما بعد الطبيعة، دار المعارف، القاهرة، ط3.
- يوسف كرم (دكتور)، العقل والوجود، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 2009م، ط1.
- يوسف كرم (دكتور)، تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، دار العالم العربي، القاهرة 2010م، ط1.
- يوسف كرم (دكتور)، تاريخ الفلسفة الحديثة، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 2013م، ط2.
[1] الطاقة الفيزيائية تعتبر فلسفيا نوع من أنواع المادة، فطاقة الضوء مثلا هي مجموعة من الفوتونات أي الأجسام المادية، والطاقة الكهربية مجموعة إلكترونات، وهكذا.
اقرأ أيضا :
نظرية التطور؛ بين التاريخ والفلسفة .. أولًا: البحث التاريخي
نظرية التطور؛ بين التاريخ والفلسفة … ثالثًا: البحث الفلسفي (2)