نظريات علم الاجتماع على ميزان العقل (الجزء الأول)
يعتبر الكثير من المهتمين بالشأن العام أن علم الاجتماع وما قدمه من نظريات هو المرجع الأكثر شمولا لتفسير علاقة الفرد بالمجتمع من جهة وعلاقة المجتمع بما يمثله من أنماط وأنساق قواعد وعادات بالفرد أو الجماعات من جهة أخرى.
كما تتباين تفسير نظريات علم الاجتماع التي سنشير إليها لاحقًا في فهم تلك العلاقات ومدي العلاقة وتأثير كلا على الآخر سواء الفرد أو المجتمع أو الأنساق الاجتماعية.
ولكن على كل حال فقد اعتمد الكثير من الباحثين في فهم تلك العلاقات على ما قدمه علم الاجتماع بفروعه المختلفة على فهم وتفسير تلك العلاقات المتباينة.
وما نود التأكيد عليه هنا في الحقيقة هو الرد على سؤالين نود الإجابة عليهما وهما؛ هل ما توصلت إليه تلك النظريات صحيح وثابت ويقدم دليل على صدق هذا الادعاء وينطبق على كل المجتمعات أم هي نتائج ظنيه لا تصل كثوابت يمكن الاعتماد عليها ؟!
كذلك نسأل عن المنهجية التي اعتمد عليها علماء الاجتماع للوصول لتلك النظريات التي اعتبروها ثوابت تفسر تلك العلاقات؟
سنحاول جاهدين أن نعرض أهم النظريات التي خلص إليها أشهر علماء علم الاجتماع في تفسير تلك العلاقة سالفة الذكر وعرضها على ميزان العقل الذي سيرشدنا في بحثنا هذا لمجموعة من القواعد البديهية التي ستوضح لنا الفرق بين ما هو ثابت وما هو متغير كذلك ما الذي ينطبق على الكل وما الذي يخص مجتمع عن غيره!
ولا يسعنا في البداية إلا أن نوضح ما هي مقومات وركائز هذا المنهج الذي سنعتبره ميزان لتلك الأفكار التي سنعرضها تباعًا.
ركائز المنهج العقلي
أولًا؛ لا يعني اسم المنهج العقلي استخدام أو الاعتماد علي العقل منفردًا بل الحقيقية غير ذلك حيث يستخدم ويوظف المنهج العقلي كل أدوات الإدراك كلا على حسب قدراته ومميزاته التي يمتلكها تحت الحاكمية العقلية؛ ذلك أن مناط الفهم التفسير والتأويل يقع على عهدة العقل بمعونة تلك الأدوات ولبيان ذلك نستعرض نوعية المعلومات التي يكتسبها الإنسان ويحتاج إليها في حياته.
ففي البداية؛ بعد المعلومات البسيطة التي يتعرف عليها الإنسان في بداية حياته من أشكال وأصوات وألوان وغيرها من المعلومات البسيطة -في بداية عمره كطفل-يكتشف الواقع من حوله ينتقل للبحث عن المعاني والأسباب التي تربط وتفسر كل ما يدور حولنا وهذا ما نلاحظه في تساؤلات الأطفال بأن يسأل؛ من أين أتيت
كما يطرأ عليه معاني كحب الوالدين والخوف والرغبة وكل تلك المعاني الكلية. يعتمد الإنسان في الوصول لمعانيها باستخدام العقل المجرد الباحث عن علل الأشياء وماذا تعني وما دليل صحة التفسيرات الموجودة.
موضع استخدام الحس
كل ذلك في الأمور التي لا تستطيع حواسنا فهمها والتعرف على معانيها الحقيقية فلا نستطيع أن نرى أو نلمس أو نشم ونتذوق الحب مثلا.
لذلك يكون تفسير تلك المعارف على عهدة العقل. أما إذا نظر الإنسان حوله في الطبيعة وما تحتوي من عناصر تتفاعل مع بعضها البعض؛ احتاج إلى آداة الحس والتجربة فلكي يتعرف على الألوان يحتاج البصر ولكي يتعرف على الروائح احتاج حاسة الشم وكذلك الأصوات يحتاج فيها للسمع.
نستنتج من ذلك أن حواس الإنسان من سمع وبصر وتذوق وشم ولمس هي القادرة على كشف المعلومات التي لا نستطيع الوصول إليها إلا من خلالها فلا سبيل لمعرفة الأصوات إلا من خلال السمع ولا سبيل للتعرف على الأشكال والصور والألوان إلا من خلال البصر …. إلى آخره.
ومن خلال تلك المعلومات الأولية عن المعلومات الحسية احتاج الإنسان إلى فهم العلاقات فيما بينها ومعرفة خصائصها وكيفية الاستفادة منها.
العلاقة بين العقل والتجربة
فقد عرف الإنسان تأثير الشمس في إنتاج الطاقة والحرارة؛ ولكي يطوع تلك الخاصية احتاج أن يقيم التجارب المختلفة التي تبحث عما يميز كل عنصر أو مادة عن غيرها وما التأثير المصاحب لتلك الخاصية.
فاستطاع بالحواس الملاحظة والمشاهدة للمعلومات المادية، واستطاع بالعقل تفسير تلك العلاقات والوصول منها لنتائج طوع من خلالها الكثير من مكونات البيئة لخدمته من طاقة ومعادن ومصادر للطاقة كذلك استطاع أن يُفسر الكثير من قوانين الطبيعة من مد وجزر وقوانين للجاذبية وخصائص للطاقة والمعادن كل ذلك بمعونة العقل
الذي فسر وأقر النتائج معتمدًا علي بديهياته التي يتمتع بها والتي لا تقبل اجتماع الشيء ونقيضة في نفس الزمان والمكان وأن الكل أكبر من مجموع أجزائه وأن لكل علة سبب كل تلك البديهيات هي من جعلت الإنسان يبحث عن الأسباب والمسببات وتقدم في العلوم المادية من طب وهندسة وغيرها من المعارف المادية الهامة والتكنولوجيا الحديثة.
فالمنهج العقلي هنا يكشف كل المعارف المادية بمعونة الحواس لكن تحت حاكميته المنطقية التي أعطت للتجربة العلمية السليمة قوتها ويقينية نتائجها مما جعل البشر يعتمدون عليها بكل ثقة واطمئنان.
العقل والنص
كذلك العقل يعتمد على الدين في كشف الجزئيات الغيبية معتمدًا على ما جاءت به السماء من أخبار الغيب معتمدًا في ذلك على قاعدة كلية مُستدل عليها عقلا بأن لهذا الكون خالق مدبر عالم حكيم خالق ومقتدر عادل فاستمد من الدين تفسير الغيبيات الجزئية معتمدًا على سلامة تلك المقدمة رافضًا أي تفسير يخالف حكمة وعدل وغنى واجب هذا الوجود.
وبذلك نستخدم قدرات العقل لندرك ونفسر المفاهيم الكلية في حياتنا كالعدل والخير. ويستخدم العقل الحواس كمقدمات لملاحظة ومشاهدة الواقع المادي من حولنا ويقوم العقل بعد ذلك بالتفسير.
كذلك اعتمد العقل في فهم الغيبيات على ما صدر من الإله العادل الحكيم بعد ما أثبت بالعقل وجوده وعدله وحكمه.
توظيف المنهج العقلي لكافة الأدوات
وهذا هو منهجنا العقلي الذي سنستخدمه في بحثنا حيث يستخدم الحواس في الحكم ومعرفة الأمور الجزئية المادية ويستخدم النص الديني في فهم الجزئيات الغيبية ويدرك العقل بنفسه المفاهيم الكلية وبتلك الآلية المستدل على سلامتها وأن لم يسعنا المجال لتقديم الدليل الكافي على صحتها إلا في بحث مفصل
ويمكن لمن يرغب التعرف أكثر على هذا النمط من التفكير ندعوه للتعرف على علم المنطق الأرسطي وعلم الابستمولوجيا (علم نظرية المعرفة).
على كل حال هذا المنهج الذي يضع ويستخدم كل آداة في محلها الخاص به هو ما يستطيع أن يكشف لنا الواقع بطريقة يقينية سليمة يمكن الاعتماد عليها سواء في البحث عن الحقائق أو الاستخدام في عرض الأفكار ونقدها وتصحيح الخطأ منها وقبول السليم.
مقالنا القادم عن عرض ونقد النظرية الوضعية لأوجست كونت.