مقالات

نحو عناية أشمل بصناعة الإنسان (الجزء الأول)

نحو عناية أشمل بصناعة الإنسان

يولد الطفل لا يدرى شيئاً يتعرض فى دقائقه الأولى إلى هواء سريع يدخل رئتيه فيصرخ من هذا الضيف المفاجئ الذى اخترق جسده، ويسمع أصوات لم يعتدها وتحركات غير مألوفة تماماً بالنسبة له.

ثم تمر شهور تنضج حواسه فيها شيئاً فشيئاً، ويبدأ باختبارها لاستكشاف هذا العالم الكبير، فيبدأ بالتعرف على أمه وأبيه وبعض الأفراد وبعض الألعاب والأضواء والأصوات والألوان.

ثم يدرك وجوده ويبدأ بالتعرف على نفسه فى المرآة ومحاولة جذب انتباه من حوله والتركيز على نفسه والتعبير عنها وعن رغباتها، واللجوء للبكاء كوسيلة للاعتراض على تجاهل تلك الطلبات أو محاولة منعه من الحصول عليها.

وتبدأ من هنا تحديات تهذيب تلك النفس المفطورة على حب الذات ومحاولة مساعدتها على تجاوز هذا النطاق الضيق إلى نطاق الجماعة والمصلحة العامة والأخلاقيات الحسنة التى تعنى بالتكاتف لا الفردية، وأول من يواجه هذا الأمر هم بالطبع مؤسسو الأسرة التى منها خرج هذا الطفل إلى العالم .

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هذا الطفل لديه استعداد كبير  نحو استكمال رحلة الفردية والتمركز حول ذاته والإطاحة بالآخرين ولكن لديه كذلك الاستعداد لاستقبال ما هو مضاد لذلك من إيثار وتقدير للآخر هذا ما يعجل منة الإنسان ، وعلى قدر اهتمام الأبوين بأى الجانبين سينمو ويترسخ.

والمعنى فى التربية أنها عملية طويلة الأمد، نتائجها ليست فورية، وإيجابية موقف واحد لا تعنى بالضرورة استمرار هذه الإيجابية أو ثبوت ملكة التصرف الإيجابي ذاك فى نفس الطفل، وهو ما يسبب الكثير من الإحباطات المتتالية للأبوين والشعور باليأس مراراً.

ثم يحين الوقت ليتعرض هذا الطفل لحياة أخرى خارج جدران منزله المحبوب، فيجد الأم توقظه باكراً للخروج من المنزل إلى مكان آخر أوسع، به وجوه جديدة لا يعرفها وأصوات مختلفة وحركات عديدة وأطفال فى مثل سنه، تتركه وحده مع كل هذا وتذهب، فيستجيب الطفل وفق طبيعته ودرجة التهذيب التى وصلا إليها الأبوين خلال سنواته الأولى ودرجة استقرار نفس الطفل واتزانه الداخلي .

إنها المدرسة.

التى طالما وصفها الكثيرون بالبيت الثانى ولم نكن ندرى وقتها سبب هذا الوصف أو كنا نزعم عند سماعنا إياه ونحن صغار أنه وصف مبالغ فيه بعض الشىء، ولكن بالفعل هو وصف دقيق ومناسب لغاية إنشاء هذا الكيان المجتمعى الهام.

إنها وكأحد أهم مؤسسات التنشئة الاجتماعية بعد المنزل تقوم بتهيئة تلك النفوس حديثة العهد بالحياة وسريعة التأثر بالمثيرات وشديدة الاستعداد للتغيير والتشكيل إلى الوصول للنموذج الأمثل لكل نفس، أى هى أحد الكيانات المعنية بصناعة الإنسان.

ولكن من الواضح أن هناك خطباً ما، فإننا لا نرى إنتاجاً يدل على جودة هذه الصناعة، بل نجد ما يُثبت العكس.

نجد أجيالاً تفتقد المعنى الجوهرى للإنسانية، وموجهة نحو الاهتمام بكثير من مسببات إفسادها وانحدارها.

الأسباب التى أدت إلى تلك النتيجة عديدة تتعلق بمراحل وخطوات سير العملية التعليمية كلها من عناصر مادية وتنظيمية وبشرية، فكل خطوة تمت لتحقيق هدف وجود هذا الكيان محتمل فيها نشوء خلل ساهم فى النتيجة السلبية أو ربما اجتماع لقصور فى معظم الخطوات وهو الرأى الأرجح.

إن قيمة الشىء تتحدد بهدف وجوده، وكلما كان الهدف راقياً ازدادت قيمة الشىء المصمم لتحقيق هذا الهدف، وهدف المدرسة هو مساعدة الأسرة والمجتمع لصناعة إنسان قادر على التأثير الفعال والتواجد الإيجابي فى مكانه المناسب، وبالاتفاق على سمو هذا الهدف نبرهن على القيمة العظيمة للمدرسة.

وسنحاول فى هذا المقال والمقالات المتبوعة له بفهم بعض المشاكل المتعلقة بالعوامل التى تساهم فى إتمام هذا الكيان وتقديم بعض الحلول وفق طبيعة العامل والعنصر المؤثر.

أولاً: فلسفة البناء التنظيمى للمدرسة

لكل كيان بناء تنظيمى يتم من خلاله الوصول لأهداف إقامة هذا الكيان؛ فالبناء التنظيمى يعنى مجموعة الأنظمة التى تربط مكونات الكيان ببعضها والتى تضع خط سير تلك المكونات نحو تحقيق الهدف الأصلى من إنشاء الكيان.

هذا البناء التنظيمى لا بد وأن يتفق مع المبادئ الصحيحة لبناء الإنسان وينبثق من علم سليم بهذا الإنسان ومقوماته واحتياجاته للمساهمة فى وضع أسس مناسبة وواقعية وفعّالة فى النهوض به فعلاً، فإن كان البناء التنظيمى يركن إلى الجهل بطبيعة الإنسان الذى هو أصل العملية التعليمية فلا نتوقع أن يكون ناجحاً.

كذلك تحويل الأهداف العامة المرجوة من إنشاء الكيان التعليمي إلى خطوات تنفيذية يحتاج إلى دراية بجوهر تلك الأهداف وليس الاكتفاء بالتفسيرات السطحية لها لأن الأمر يتطلب تشكيل ترتيبات جزئية تصب فى قنوات تحقيق الأهداف الكلية.

من ضمن الترتيبات الجزئية تحديد الشروط الواجب توافرها فى الطالب الملتحق بالمدرسة، وعدد الطلاب فى كل فصل، وتحديد المبادئ الجزئية التى على أساسها يتم تقييم أداء الطالب ونموه، شكل الإدارة المدرسية وصلاحيتها، الإطار العام للأنشطة المدرسية كالإذاعة المدرسية والرحلات التعليمية والترفيهية للطلاب، والبرامج التطويرية لأعضاء العملية التعليمية، وتحديد معايير اختيار منفذى الوظائف المتعددة فى الهيكل التنظيمى وغيرها من الخطوات الهامة لضمان سير المدرسة بالشكل المضبوط.

البناء التنظيمي عند الإنسان

فالمقصود من فلسفة البناء التنظيمى  هو الأساس المعرفى والمبادئ الأولية التى يحتكم إليها البناء التنظيمى، والتى تؤثر بشكل محورى فى نتائجه.

فباختصار لو كان الأساس المعرفي صلباً وصحيحاً والمبادئ الأولية متلائمة مع مفهوم الإنسان الفاضل، سيساهم ذلك فى وضع خطوات تنفيذية صحيحة تكون بمثابة مصابيح تُنير الطريق نحو عملية تعليمية ناجحة.

أما لو كانت الفلسفة المتكأُ عليها هذا البناء فلسفة هشة أو ذات أهداف بعيدة عن الفضيلة والعدالة، سيتجلى ذلك على شكل قصور فى التكوينات الجزئية فى البناء ومنها إلى تحقيق أهداف خسيسة لا تنهض بالإنسان ولو ساهمت فى تجميل بعض الظواهر الخارجية لديه.

المدرسة ليست مجرد مبنى يجتمع فيه أناس لقضاء أوقاتهم والسماح لهم بعمل بعض الأنشطة والتفاعلات الاجتماعية، ولكنها قبل كل شىء فكرة هامة لتأهيل الأجيال وصناعتهم، والبناء التنظيمى هو الخطوة الأولى فى تحويلها من مجرد فكرة إلى أرض الواقع، وإحداث خلل فى هذا البناء يعنى خللاً فى الكفاءة المطلوب تحقيقها الإنسان وصانعى المستقبل.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط

ندعوكم لزيارة قناة الأكاديمية على اليوتيوب

 

 

 

 

هبة علي

محاضر بمركز بالعقل نبدأ وباحثة في علوم المنطق والفلسفة