مقالاتفن وأدب - مقالات

من “احلم معايا” لـ”داري يا قلبي”، لماذا لم يحبنا العالم؟

حمزة نمرة مطرب يهتم بأغنياته الكثير من أبناء جيلنا، وينتظرون ألبوماته بشغف.

بعد نزول ألبومه الأخير”داري يا قلبي” انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي التعليقات على التحول الذي حدث في دلالات أغنياته، من سياق الأمل والتفاؤل والحلم بالغد الأفضل الذي طبع ألبوماته السابقة، إلى سياق الإحباط واليأس والتشاؤم الذي يظهر في أحدث أغنياته”داري يا قلبي”، حالة الكآبة واليأس والإحباط التي أصبحت للأسف علامة مميزة، وطابع للكثير من أبناء هذا الجيل.

تشير الإحصائيات إلى أن في مصر نحو 1.5 مليون مصاب بالاكتئاب الحاد، و15% من هؤلاء المصابين يلجؤون للانتحار للتخلص من معاناة هذا المرض![1]

وفي اليوم العالمي للوقاية من الانتحار الذي يصادف العاشر من سبتمبر، ذكرت منظمة الصحة العالمية في عام 2010م أن معدل الانتحار في مصر بلغ أقل من %6.5 حالة انتحار لكل 100 ألف نسمة، أي نحو 2200 حالة كل عام، أو ما يقرب من 183 حالة انتحار شهريا![2]

إحصائيات مخيفة فعلا!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لماذا لم يحبنا العالم؟

لسان حال الكثيرين، ومحتوى منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي؛ لماذا لم يحبنا العالم؟

ترى أحدهم قد فقد وظيفته، أو فشل في خطوبة أو زواج أو علاقة صداقة، فيصاب باليأس والإحباط والشعور بأنه لا داعي لأي محاولة جديدة، لأن كل محاولة مصيرها الفشل بالتأكيد، فنحن لم يحبنا العالم!

يحتاج الإنسان لمعنى لحياته، ولغاية يتحرك من أجلها، ويؤمن بها، وقضية يبذل في سبيلها، وتكسب سلوكه وسعيه في الحياة قيمة حقيقية.

تلك الغاية، أو القضية، أو هذا المعنى، لابد أن يتسم بكونه حقاّ لا يشوبه باطل، وثابتاّ لا تغيره الظروف والأوضاع المختلفة، ومطلقاّ يشمل الإنسان بكيانه، ويكون أكبر منه فيضحي في سبيله، ويقضي فيه عمره وحياته.

معنى وقضية مثل العدالة، وإرساء الحقوق، ونصرة المستضعفين والمحرومين، وسيادة الحق، وانتشار الخير، معنى وغاية مثل رضا الإله بما يمثله من كمال وجمال مطلق، والسعي للنهل من هذا الكمال وهذا الجمال، وتغيير النقص والقبح في نفوسنا، وفي العالم من حولنا.

قضية ثابتة ومطلقة، ومعنى لا يشوبه باطل، فتحقيق العدالة ونصرة المستضعفين هو أمر كان ومازال وسيظل يستحسنه كل صاحب عقل وضمير بشكل بديهي واضح، ولن ينقلب يوما أمرا مستقبحا مرفوضا لا يستحق السعي في سبيله.

غاية واقعية وحقيقية تستطيع أن تشمل الإنسان، ويقضي في سبيلها عمره كالنهل من مصدر الجمال والكمال المطلق، والسعي للتقرب إليه دوما بكل سلوك وكل حركة وكل فعل، مهما بلغت بساطته، وكل تعامل مهما بدا قصيرا.

يعرض الإنسان نفسه للإحباطات واليأس عندما يستبدل بالمعاني والغايات المطلقة الثابتة أمور طبيعتها التغير والتحول وعدم الثبات، كمن يجعل هدفه في حياته ومعناها الذي يعيش من أجله تحقيق منصب معين في وظيفة أوالارتباط بفلانة أو فلان، أو تحقيق نجاح في مشروع مالي، أو النجاح في علاقة صداقة معينة، أو الطقم الصيني، والسيارة، والموبايل الأحدث إصداراّ.

المناصب لا تدوم، ولا يمكنك الاعتماد على استمرارها، و أن رئيسك في العمل لن يأتي يومًا ويقول لك : شكرا لقد خدمتنا بما يكفي، لا نحتاج للمزيد!

وفلان أو فلانة لن يستمروا معنا دوما، وإن استطاعوا تلبية توقعاتنا الملائكية فيهم-مع الندرة  الشديدة في وجود من يتمكن من ذلك- فإنهم كغيرهم من البشر، سيبعدهم الموت، ومعرضون لأي ظرف يجعلهم يغيبون عنا كالسفر أو المرض أو غيره، وكذلك من الممكن أن يتغيروا ببساطة، يفقدوا الصور الملائكية التي كانوا لنا عليها، يتغيروا للأسوأ، فهم في النهاية بشر!

والمشروع المالي الكبير مهما بلغ حجم رأس ماله، وبلغت إيراداته، معرض للخسارة، بل حتى للانهيار تماما، ولا يمكن لأحد أن يضمن بنسبة 100% أن مشروعه لن يخسر أبدا!

والطقم الصيني سوف تقومين بنفسك بتنظيف بقاياه، بعد أن يقوم أولادك أو أحفادك بتكسيره في إحدى مغامراتهم الاستكشافية في البيت، ناهيك عن الموبايلات، أو السيارات، وغيرها من الأجهزة الحديثة.

كل تلك الأمور طبيعتها التحول والفساد وعدم الثبات، ولو حتى بالموت، فعندما يسلم الإنسان نفسه بالكامل لها، ويعلق عليها آماله وأحلامه، فإنه يسلم نفسه بنفسه للتعرض للإحباطات المتكررة ما يصيبه باليأس والاكتئاب، ولسنا نعني بالتاكيد أن ينعزل الإنسان عن الأصدقاء، ويترك الزواج والعلاقات الاجتماعية، بالعكس تماما، العلاقات السليمة تساعد الإنسان على تجاوز المحن، وتخطي الظروف الصعبة والعقبات، لكن المقصود ألا يختصر الإنسان حياته وغايته، في علاقة إنسانية يتوهم فيها الدوام وعدم القابلية للانتهاء أبدا، ويجعل منها كعبة يطوف حولها، فيظلم نفسه وشركاءه في العلاقة.

وكذلك لا نعني أن يعيش الإنسان في الصحراء، ويترك السعي في الدنيا وتحقيق النجاح المادي، بالعكس تماما، المقصود ألا تختلط على الإنسان الوسائل والغايات، فيظل دوما محتفظا برؤية واقعية وفهم صحيح للأمور، فيعرف أن المشروع المالي الكبير، والشقق والعمارات والمناصب والوظائف، وسائل وأدوات يستخدمها لتحقيق غايته الكبرى والقضية التي يحيا لأجلها، لكن ليست بذاتها غاية ولا هدف يحيا من أجله، فإن فقدها فقد الإحساس بمعنى حياته معها.

كذلك من أهم أسباب اليأس والإحباط، الفهم الخاطئ للأمور والواقع من حولنا، و تبني توقعات غير واقعية مبالغ فيها، كالصور الملائكية التي يرسمها كل طرف للآخر، فإذا ما اكتشف أنه بشر يخطئ ويصيب، أصيب بالصدمة! أو توقع أن تكون الحياة بعد الزواج، كلها خروجات وفسح و ورود ورومانسية، فإذا ما واجهت الزوجين بعض المشكلات البسيطة، أحبطوا وأصيبوا بالاكتئاب.

أو كالذي يتبنى قضية إصلاح مجتمعه الذي يئن تحت وطأة انتشار الجهل والانحلال الأخلاقي، دون أن يكون لديه رؤية واقعية وحقيقية عن مدى تأصل  الفساد وتمكن الجهل من أهل مجتمعه، ودون أن يجتهد ليحدد طريق الإصلاح الحقيقي، فيتوهم أن الإصلاح ورفع الجهل، مسألة لا تحتاج للوقت الكثير، وبذل الكثير من التضحيات، فيصيبه الإحباط واليأس السريع، عندما لا يجد ما كان يتوقعه من تغيير سريع للواقع، وتحول للناس في مجتمعه، وهو الذي يدرك من نفسه هو، صعوبة تغيير عادة معينة غير صحيحة اعتاد عليها، فكيف بتغيير النفوس والقلوب والعقول، وهو ما قد يتطلب في تاريخ الأمم قرونا طويلة، وتضحيات جسام؟

في الحقيقة، اليأس والإحباط والاستسلام، لإجابة أن العالم فقط لم يحبنا بما يكفي لكي ننجح، أسهل في بعض مراحله من المحاولة والتمسك بالحلم والأمل، غير أن عاقبته قد تصل لإنهاء الحياة، والعيش في سجون الاكتئاب والسوداوية.

الإيمان بالأمل يضع على الإنسان مسئولية السعي، ومواجهة صعوبات الحياة، والبحث عن حلول لمشكلاتها، يدفع الإنسان للحركة، وترك الاستسلام للكسل والراحة.

لقد أحبنا العالم بما يكفي إذا ما كنا صادقين مع أنفسنا، ومتحلين بالعقلانية وبالواقعية في النظر للأمور. خلقنا إله حكيم عادل كريم، يستحيل أن يتصف بالظلم أو أن يكون خلقنا عبثا، وإرادته في تحقيق العدل نافذة دوما، وبالتالي فمصيرنا هو الخير، وكل سعي في سبيل العدالة وفي سبيل الحق، لابد وأن يؤتي ثماره، وبعيدا عن النتائج الملموسة العاجلة، فهذا الإيمان وهذا السعي، هو المعنى الحقيقي للحياة، والدافع الواقعي للحركة.

نحن في الحقيقة الذين لم نحب أنفسنا بما يكفي؛ فلم نسع لنتعلم كيف ننظر للأمور بواقعية، وكيف نشخص الغاية التي تستحق أن نبذل حياتنا في سبيلها، وغلبنا الكسل وفضلنا الراحة على التفكير المنطقي، واستسلمنا للهروب من المواجهة ثم وجهنا أصابع الاتهام للعالم!

[1]   أ.رأفت محمد- قبل الانهيار(العلاج المعرفي للأزمات النفسية والأخلاقية)- إصدار بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث ص89

[2] المصدر نفسه ص 87

داليا السيد

طبيبة بشرية

كاتبة حرة

باحثة في مجال التنمية العقلية والاستغراب بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

حاصلة على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية