من أين تستمد قيمتك؟ (الجزء الثاني): هل قيمتنا تستمد من الأموال والشهادات والمناصب؟
تساءلنا في المقال السابق وقلنا: من أين نستمد قيمتنا ذاكرين بعض النماذج التي تفسر ذلك وسنحاول في هذا المقال استكمال بعض النماذج الأخرى ثم الخلوص بتفسير نفهم من خلاله من أين نستمد قيمتنا الحقيقية فعلاً في الجزء الثالث.
تحدثنا عن استمداد القيمة من آراء الآخرين، ومن التأثير الإيجابي في الآخرين وأخيراً كان استمداد القيمة من الشكل الظاهري واتضح أن النماذج الثلاثة غير كافية للتعبير عن قيمة الإنسان.
– النموذج الرابع:
استمداد القيمة من الأموال والممتلكات
فنجد البعض يحدد قيمته على أساس ما يملك في حسابه البنكي، ونوع السيارة التي يركبها وأسماء الماركات المطبوعة على ملابسه، ومساحة المسكن الذي يقطنه ورقي المطعم الذي يتردد عليه، ونوع هاتفه الخلوي وعدد الأجهزة الكهربائية في منزله ونوعها واسم المدرسة التي يتعلم فيها أبناؤه والمشفى الذي يتعالج فيه والمصيف الذي يقضي فيه أجازته وغيرها من الممتلكات والخدمات التي يتمتع بها في المجتمع. ترى هل فعلاً قيمتنا تتحدد بما نملك من أموال وأدوات وخدمات؟
ما تشهده مجتمعاتنا حالياً من أزمات اقتصادية جعلت السعي لتحصيل المال هو المنفذ الوحيد للاستمرار على قيد الحياة، ومن العولمة وتفشي الرأسمالية التي تزيد الغني غنى والفقير فقراً، ومن النظرة المادية المهيمنة على العقول وما يفقده الفقير من تقدير لشخصه والإهانة لمكانته في المجتمع، ما نشهده من كل ذلك هو السبب الرئيسي في معضلة “الفلوس كل حاجة” والسعي المستمر للحصول على أكبر قدر من المال لضمان حياة كريمة يستطيع فيها الفرد الحصول على طعام وشراب وملبس وخدمات صحية وتعليمية جيدة.
ولكن هل هي كافية لاختزال قيمة الإنسان في المال؟ هل فقدان تقدير الأنظمة الفاسدة للمواطن الفقير يسلبه قيمته؟ هل الفقر مضاد للإنسانية؟ هل الإنسان يتحول إلى قرد مثلاً عندما يفقد أمواله؟
غياب احترام الناس للفقراء حالياً غير كافٍ لاستنتاج أن قيمة الإنسان هي مقدار ما يملك من أموال، وتحديد المكانة والوجاهة الاجتماعية بالأموال والممتلكات –رغم سيادته حالياً في المجتمع– لا يعني أن مفهوم الإنسان يضيع بضياع أمواله وبساطة ممتلكاته.
وأرقام انتحار أصحاب الأموال شاهد، فهل هناك شخص يشعر بقيمته يقرر أن ينهي حياته رمياً من الطابق السابع أو طلقاً بالرصاص؟
وكم من غني أدمن المخدرات لينسى واقعه المليء بالممتلكات والخدمات الفائقة.
وكم من غني بذل جميع أمواله لجمعيات خيرية وبناء مستشفيات تقدم خدمة مجانية للفقراء، هل فرط حينها في قيمته؟
بالإضافة أننا أثبتنا فيما سبق أن الجزء الأسمى والأرقى في الإنسان هو نفسه وروحه وليس جسده، ومتطلبات اكتمال النفس وسعادتها لا تحتاج لوفرة من المال.
إذا لا يعقل أن ننساق وراء الفكر المادي الرائج ونختزل قيمة الإنسان في أمواله.
– النموذج الخامس:
استمداد القيمة من الشهادات والدرجات العلمية
فالبعض يقدر قيمته بما حصل عليه من شهادات وما ثبت له رسمياً من درجات علمية كالبكالوريوس أو الليسانس أو الماجستير والدكتوراه والأبحاث المنشورة والدورات التدريبية والمعرفية وغيرهم، وهنا نحتاج شيئاً من الدقة للتفريق بين شرف العلم وشرف المكانة وعلاقتها بالقيمة.
فلا شك طبعاً أن الإنسان يرتقي بالعلم، وبما أثبتناه سابقاً فالزيادة في المعرفة تليق بأسمى جزء في الإنسان، ولكن المعرفة لا تتم فقط بالشهادات والدرجات العلمية الرسمية الأكاديمية.
والعلم يكتمل في نفس الإنسان ليس فقط بما يكتسب من معارف ولكن أيضاً بمدى تطبيقه لما يعرف ومدى استخدامه في رقي البشرية وهو ما لا يتم إثباته بالشهادات.
إذاً فلا يمكننا الجزم أن قيمة الفرد تتحدد فقط بالشهادات وأسماء الجامعات التي درس فيها والدرجات العلمية الرسمية التي حصل عليها.
وباستقراء بسيط نجد نماذج من حاملي أعلى الشهادات يدهسون اللا إنسانية دهساً ويقودون البشرية إلى الضياع، فماذا فعلت لهم درجاتهم العلمية المسجلة على الورق؟
وكم من علم تم استخدامه في الدمار والخراب؟ إذاً الأمر لا يتعلق بالعلم وحده.
ناهيك عن انتشار الأنظمة الرسمية العقيمة في التعليم والتي لا تمثل شهاداتها أي دلالة حقيقية على علم حاملها.
– النموذج السادس:
استمداد القيمة من المنصب والسلطة
لا يقتنع البعض بقيمته إلا “بتحقيق ذاته” والنجاح في العمل والوصول إلى أعلى المناصب الإدارية في المؤسسات المحلية أو الدولية، فهل المنصب كافٍ لتحديد القيمة؟
صحيح أن المناصب الإدارية تحتاج مؤهلات عليا في الأفراد ومهارات وخبرات كبيرة وغالبا يدل على جهد مضنٍ من الفرد وإصرار وتحمل ولكن هذا غير كافٍ وحده لإبراز قيمة الإنسان.
فالأمر يحتاج إلى تأمل في معنى النجاح، والهدف من وراء تحقيقه ومدى ارتباط الجهد المبذول للوصول إلى المنصب بمدى الغاية من الحياة برمتها، وكيفية تصرف الفرد في صلاحياته كمسؤول وكيفية تعامله مع من هم أقل في السلطة والمنصب.
وهل عندما يترك منصبه يتخلى عن إنسانيته وقيمته؟ وهل ذوو القدرات والمؤهلات والمهارات المحدودة كلهم أدنى في قيمتهم؟ وما حال من كان وصوله لأعلى المناصب بداية لإفساده في المجتمع بقراراته الخاطئة أو الظالمة؟ وماذا عن من ينالون المنصب بواقع الفساد والمحسوبية بدلاً من الكفاءة والاستحقاق؟
إذا المنصب وحده أيضاً غير كافٍ للدلالة على الرقي أو قيمتنا الحقيقية
من أين نستمد قيمتنا إذاً طالما كل النماذج السابقة غير كافية وغير دالة على القيمة الحقيقية؟
هذا ما سنوضحه إن شاء الله في المقال التالي والأخير.
اقرأ أيضا :
هل الأرض كروية أم مسطحة ؟ – كيف نبحث عن الحقيقة ونتأكد من صحة الأمر ؟
من أين تستمد قيمتك؟ (1) … هل قيمة الفرد تكمن في أعين الآخرين؟