من أين تستمد قيمتك؟ (الجزء الأول): هل قيمة الفرد تستمد من الآخرين؟
متى تشعر أن لوجودك قيمة ؟ وكيف تحدد قدرك وسط أقرانك؟
هل تخسر شعورك بذاتك بنجاح آخرين؟ هل تشعر بالدونية في وجود من هم أعلى منك؟ بل كيف أصلاً تحدد من الأعلى ومن الأقل قيمة ؟ وعلى أي أساس؟
من أين تستمد قيمتك وشعورك بذاتك؟
تذكرت قصة تحكي عن فتاة انتحرت لأن الناس حولها وصفوها بالفتاة الأقبح شكلاً، وبغض النظر عن مدى صحة حدوث هذا الخبر فهذا لا ينفي وجود الكثير ممن يعلقون قيمتهم على أسس ضعيفة كتلك الفتاة التي اختزلت قيمتها في جمال الشكل وقررت إنهاء الحياة برمتها عندما أقنعوها أنها قبيحة!
كيف إذاً يفسر الناس قيمتهم و قيمة حياتهم؟
هناك نماذج عديدة وسنحاول هنا سرد بعضها:
– النموذج الأول:
استمداد القيمة من آراء الناس حولي
يشعر الفرد هنا بقيمته عند ثناء الناس عليه وعند سماعه لآرائهم الإيجابية في شخصه وأخلاقه وأفكاره وأعماله وإنجازاته، ويشعر بالدونية عندما ينصرف الناس عنه، فهل هذا فعلاً معيار مناسب يستمد منه الفرد قيمته؟ فلنرى ذلك.
الناس ليسوا على شاكلة واحدة، واختلافهم واضح ولا شك فيه، وبالتالي آراؤهم مختلفة في تشخيصهم لقيمة نفس الفرد بناءً على معيار كل واحد منهم، بل وأحياناً تتناقض فنجد أحد الأفراد يُثني على أخلاق طارق مثلاً وشخص آخر يعدد أسباب فساد طارق!
كيف يكون طارق خلوقاً طيباً وفاسداً في ذات الوقت؟
العقل البشري السليم لا يقبل اجتماع التناقض، فلا يقبل مثلاً أن تكون التفاحة حمراء وصفراء في آن واحد، ويستحيل أن يكون الباب مفتوحاً ومغلقاً في نفس الوقت، كذلك يستحيل أن تتناقض آراء الناس حول نفس الموضوع وتكون الآراء جميعها سليمة طالما أن الموضوع خارج نطاق الذوقيات (كالألوان والأكلات وما لا يوجد دليل على ثباته).
إذاً لا يصح الاعتماد على آراء الناس في معرفة قيمة الإنسان.
بالإضافة إلى اختلاف آراء الناس أنفسهم أحياناً بشكل مريب، فتجد اليوم يمدحك وغداً يذمك، ناهيك عن النفاق والمجاملات وغيرها من التعقيدات التي يصعب على الكثيرين الاطمئنان لكلام الناس بسببها.
– النموذج الثاني:
استمداد القيمة من مدى التأثير الإيجابي في الآخرين
لا يعترف البعض بقيمتهم إلا بأعداد الناس الآخرين الذين تأثروا إيجابياً بهم وكانوا لهم مصدر إلهام وقدوة، فهل هذا صحيح؟
لا بد أن نسأل أولاً كيف يتأثر الإنسان بالآخر؟ عن طريق تغيير أفكار أو عواطف أو تغيير سلوك.
حسناً، تغيير الأفكار بشكل جذري لدى الفرد يتأثر بعوامل مختلفة وأهمها طريقة استقبال الفرد نفسه للأفكار الجديدة ومدى استعداده للتخلي عن أفكاره القديمة، وقدرته على تناول الفكرة أصلاً، أي أن تغيير أفكار الفرد لا تتوقف فقط على جهد المؤثر بقدر توقفها على ذاتية المتأثر.
والتغيير في العاطفة لدى الفرد هو بدوره متوقف على الفرد نفسه وفقاً لبنيته النفسية ورجاحة عقله وتحكمه في عواطفه.
والتغيير في السلوك إما أن يكون بشكل “قهري” أي الإجبار على فعل ما أو ترك فعل آخر وهو شيء مكروه طالما الفرد لا يجور على حق أحد، وإما أن يكون بشكل “ودي” نتيجة التأثير في الأفكار أو العواطف وهو –كما ذكرنا– متوقف على الشخص نفسه.
إذاً التأثير الإيجابي في الآخرين لا يعتمد على جهد المؤثر فقط بل يعتمد على المتأثر أيضاً وبشكل كبير، فلا يصح أن نتكل على ذلك في استنتاج قيمة الإنسان.
ومع استقراء لبعض الشخصيات التاريخية نجد أن كثيرين ثبتت قيمتهم في محراب الإنسانية رغم عدم التفات الكثير من الناس حولهم، ولنا في الأنبياء مع شعوبهم عبرة في ذلك.
– النموذج الثالث:
استمداد القيمة من الشكل الظاهري
كتلك الفتاة التي بدأنا حديثنا عنها، فهي وغيرها من الفتيات والفتيان يستمدون قيمتهم من مدى وسامة وجوههم وتناسق ملامحهم وقوام أجسادهم، فعل هذا يُعقل؟ دعونا نرى.
يشترك الإنسان مع الحيوان في خصائصه البيولوجية بشكل كبير، بل تتفوق بعض الحيوانات أحيانا على الإنسان في بعض الغرائز والقدرات الحسية كالسمع والبصر، ولكن ينفرد الإنسان بعقله القادر على إدراك المفاهيم والتحليل والتأمل النظري وكشف المجهول.
فالإنسان إذاً أرقى الكائنات وهو ما نشهده في قدرته على تطوير حياته على عكس باقي الكائنات، فهل الرقي نابع من جمال شكله؟ أم من عقله وروحه؟
بالإضافة إلى أن طفولة الإنسان هي الأكبر من حيث السنوات، أي أن الإنسان يقضي فترة أطول من الكائنات الأخرى لينضج جسمانياً وذهنياً ونفسياً، فنستنتج أن الكائن الأعقد والأرقى في السلالة يستغرق نموه فترة أطول وهو شيء طبيعي نتيجة لطبيعته.
وإذا نظرنا للمكونين داخل الإنسان وهما الجسد ” جانب مادي ” والنفس ” جانب معنوي ” سنجد أن النفس تحتاج فترة أطول من الجسد لاكتمال نضجها وفعاليتها، فنستنتج أن الأرقى إذاً ليس الجسد. فكيف نعلق القيمة بالجزء الأدنى؟
وإذا تأملنا في تحركات الإنسان فنجد أنها نابعة من أفكاره وفطرته، وإذا نظرنا إلى مفهوم الإنسان فلن نصل إلا أن الجسد ما هو إلا أداة لخدمة النفس، بمعنى أننا يمكنا تلخيص كافة حركات الجسد -بما فيها متطلبات الجسد نفسه- لهدف واحد وهو التكامل والسعادة للنفس.
فكيف إذاً نعلق قيمتنا على الأداة ونتجاهل القائد وهو الأهم؟
بل وكيف نعلق قيمتنا على ما لا إرادة لنا في اختياره أصلاً؟ فلا أحد من البشر قادر على اختيار شكله الخارجي وسمات جسده.
في الجزء الثاني من المقال نستطرد باقي النماذج الأخرى ثم نحلل في الجزء الثالث من أين يجب أن نستمد قيمتنا الحقيقية فعلاً.
اقرأ أيضا :
الكيان المادي الخانق .. كيف ينقذ الإنسان روحه ؟
عاصفة الموقف.. كيف يوازن الإنسان بين العقل و الوجدان ؟