مقالاتقضايا وجودية - مقالات

مركزية الإنسان و مركزية الإله – بين الغاية والهدف (الجزء الأول)

تختلف الرؤى وتتقاطع الأهداف ويظل الإنسان فى حالة من التيه فى هذا العالم المنهمك وراء ما لا يُعرف جدواه، ليستيقظ فى لحظة من هذا الانهماك متسائلا عن الغاية من وجوده وعن سبيل اكتشاف هذه الغاية، ومن هنا تختلف غاية كل إنسان عن الآخر باختلاف رؤيتهم للحياة وإن اتحدت الأهداف، الأمر الذى يحتاج لتوضيح الفرق بين الغاية والهدف وتحليل أكثر عمقا لما نقصده بالرؤية وعلاقتها بالغاية .

بين الغاية والهدف

يختلط الأمر على كثير منا فى تحديد الفارق بين الهدف والغاية، ولكن يمكننا تلخيص الفارق سريعا فى الآتى :

الغاية هى المحصلة النهائية التى تعتبر الأهداف وسائل لتحقيقها، و بمعنى آخر فالغاية هى هدف الأهداف، أما الأهداف فهى السبل المختلفة لتحقيق الغاية، فالعمل وجنى الأموال وتحقيق الإنجازات والزواج والتعليم كل هذا يُعد أهداف لتحقيق غاية الانسان الكبرى.

الغاية تنبع من الرؤية

وبالرغم من اختلاف البيئات والثقافات وأساليب التربية وغير ذلك من الأمور التى يتعرض لها الإنسان فى حياته، إلا أن الرؤى الناتجة عن هذا التفاعل بين الإنسان والمؤثرات المختلفة لا تخرج عن رؤيتين اثنتين، قد تختلف الأهداف أو تتفق، ولكن تظل الرؤى الحاكمة لأفعال البشر رؤيتين ولكل رؤية غايتها التى تنبع منها، وهذا ما سنتعرض له تفصيلا أثناء عرض كل رؤية على حدة.

مركزية الإنسان

الرؤية الأولى ترى أن الكون جاء صدفة ومصيره الفناء، وبما أنه لا يوجد خالق لهذا الكون فلا يوجد غاية خُلقت لأجلها هذه الموجودات بما فيهم الإنسان لتحقيقها، وفى هذه الحالة “فالإنسان هو مركز الكون” لأنه تمكن من فهم قوانين الطبيعة واستغلالها لصالحه وتمكن أيضا من التحكم فى الكون والسيطرة عليه بعقله المميز له عن غيره من الموجودات،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

و بناء عليه فهو المؤهل للسيادة وهو من يحدد غايته فى الحياة وهو أيضا من يحدد مصير العالم من حوله، ومن هنا نجد البعض يوجه أقصى طاقته لتحصيل أكبر قدر من الملذات والخيرات

ونجد البعض الآخر غايته تتمثل فى نصرة المستضعفين وإسعاد الآخرين، وآخرون غايتهم فى الحياة إقناع الآخرين بعدم الجدوى من الحياة وأن السبيل الأمثل للتخلص منها أن نسعى للانقراض بعدم الإنجاب،

وآخرون يسعون إلى تحقيق الإنجازات التى تُخلّد ذكراهم بعد مماتهم فيسعى فلان لصناعة أذكى روبوت فى العالم وعلان إلى صناعة دواء خارق يمكنه علاج كافة الأمراض وخلان إلى السفر حول العالم فى رقم قياسى، وآخر يسعى للسيطرة على كافة الموارد المتاحة أو نشر رؤيته ومعتقداته فى العالم كله إلى غير ذلك من الطموحات والشطحات الإنسانية.

مركزية الإله

أما الرؤية الثانية فهى -على النقيض- ترى أن الكون له خالق وأن الموت بداية لحياة أخرى وأن “الإله هو مركز الكون” بالتالى فهو الذى يحدد الغاية من وجود المخلوقات، وبما أن الإنسان مخلوق كغيره من المخلوقات فإنه قبل أن يفعل أى شىء فى هذا الكون الشاسع سيسأل خالقه عن الغاية من وجوده وعن ما ينبغى عليه توجيه كامل طاقته لتحقيقه،

و بالرغم من أن هذه الرؤية تتعارض تماما مع الأولى إلا أن أصحابها قد تجد لديهم تطلعات وطموحات وحتى أهداف شبيهة بأصحاب الرؤية الأولى ولكنهم يختلفون عنهم فى بعض النقاط المحورية  :

1- من يؤمن بمركزية الإله يحاول إسعاد الآخرين ونصرة المستضعفين ويسعى للتعلم والزواج والإنجاب وقد يحاول ُصنع أذكى روبوت واكتشاف نفس العلاج الخارق للأمراض ولكن كل هذه الطموحات بالنسبة إليه مجرد أهداف لتحقيق غاية أسمى وهى تحقيق مراد الإله فى الكون من خلال هذه الاهداف.

2- من يؤمن بمركزية الإنسان؛ أهدافه مادية تنحصر بتحصيل النتائج الآن وهنا، أما صاحب الرؤية الإلٰهية فينشغل بالمعنى والأثر الباقى الذى سيجنيه عندما ينتقل للعالم الآخر كنتيجة لأفعاله، فلذلك تجده لا ينشغل كثيرًا بالنتائج اللحظية بل باتباع الأسباب.

3- من يؤمن بمركزية الإنسان قد تكون أهدافه خيِّرة أو شريرة؛ لأنه لا يمتلك مرجعية أخلاقية أو قيمية ثابتة لتحقيق العدل أثناء تنفيذ أهدافه، أما صاحب الرؤية الإلٰهية فهو لا يعمل على هدف إلا بعد التأكد من أنه متصل بالغاية التى خُلق لتحقيقها، كما أن أهدافه دوما خيرة وسبل تحقيقها عادلة؛

لأنه بعد التأكد من ارتباط الهدف بالغاية يتأكد من أنه يُنفذ الأهداف وفق التشريعات والضوابط الإلٰهية التى وضعت من قبل الإله لتحقيق العدالة، فتجده إذا تعارض تحقيق الهدف مع الالتزام بالضوابط الإلٰهية يصبح الأولى عنده ترك الهدف؛ لأن غايته الأساسية تحقيق العدالة -التي هي مراد الإله- عن طريق تحقيق الهدف و ليس تحقيق الهدف فى ذاته كما هو الحال عند الرؤية الأخرى.

مركزية الإله ظاهرا والإنسان باطنا

هناك فئة لا يمكن أن نتجاهلها فى هذا السياق تُعد ممن ينتمون إلى الرؤية الأولى التى تؤمن بمركزية الإنسان ولكنها فى نفس الوقت تنتمى ظاهريا للرؤية الإلٰهية.

هذة الفئة تنسب نفسها للرؤية الإلٰهية إما لأنها ورثتها عن آبائها أو لأنهم يجدون فى تبنى الرؤية الإلهية ما يتوافق مع مصالحهم؛ فتجد هذة الفئة تطوع كل شىء لخدمة أهدافها ولا مانع لديها من الالتزام بالضوابط الإلٰهية وحتى المناداة بتبنى الرؤية الإلٰهية ما دام هذا الأمر يدفع ضررًا أو يؤدى لمصلحة من وجهة نظرهم، بل ويمكنها تحريف الضوابط وتعديلها لتتناسب مع أهدافهم الشخصية،

وهذا حال كثير ممن يدينون بدين الوراثة الذين يرفضون الضوابط الإلٰهية التى لا تتناسب مع أهدافهم و رؤيتهم الخاصة للحياة، فهم يفعلون ما اعتادوا عليه و ينفرون مما لم يعتادوا عليه، فإذا اتضح أن الرؤية الإلٰهية -التى وجدوا أنفسهم ينتمون إليها- تتنافى مع ما يرضيهم ويحقق أهدافهم فعلوا ما تأمرهم به أنفسهم؛ لأنهم فى الحقيقة يرون أنفسهم مركز الكون أو “الإله” الذى يحدد الغاية و كيفية تحقيقها .

بالطبع لكل رؤية أثرها النفسى والاجتماعى على الإنسان، و لهذا يجب على العاقل معرفة إلى أي رؤية ينتمى؟! ولماذا ينتمى إلى هذه الرؤية تحديدا؟! و هذا ما سنحاول إفراد مقالا خاص له إن شاء الله .

اقرأ أيضا :

أين أجد إجابات للأسئلة المصيرية ؟ وكيف يتم التوافق ؟

الحرية الشخصية بين التحرر والاستعباد.. ماذا يعني أن أكون حراً ؟

اليأس خدعة و الأمل حياة جديدة نعيشها.. ولكن كيف؟

محمد خيري

عضو بفريق بالعقل نبدأ القاهرة