الغربة حقا مؤلمة، فبما يشعر من عاشرها؟ كيف هو إحساس الوحدة؟
في هذه اللحظات من الهدوء الخانق الذي يكاد يقتل الإنسان من شدة ألم الوحدة تظهر تفاصيل الحياة أكثر وضوحا… تتحقق هنا لحظات من الصراحة مع النفس، فإنك في هذه اللحظات لا تجد أمامك إلا نفسك لتسليك وتخاطبك وتحقق معك! بصراحة لا أعلم كيف يتحمل الغربة هؤلاء الذين عايشوها بالعقود حتى وافتهم المنية بعيدا عن الوطن أو ربما عادوا بعد أن أهلكتهم الأيام والشهور والسنين، فأصبحوا أجسادا متهالكة مستنفذة تعود مثل الأفيال المسنة لمقبرة الأجداد لتلحق بهم؟
ربما هي صورة سوداوية لا يطيق سماعها -ناهيك عن أن يصدقها- كل أصدقائي المتحمسين للسفر، فهو لا يرى في الغربة سوى النقود والمتعة والتغيير والدنيا ثم المزيد من النقود والمتعة والدنيا.
ضجيج الصمت في الغربة
لكن هؤلاء لا يفكرون في المعادلة ككل، فهم لا يفكرون في تلك اللحظة التي تعود فيها بعد سهرة صاخبة وممتعة مع أصدقائك لمنزلك الصغير، تفتح الباب فلا تجد من يسلم عليك، لا تجد الحضن الدافئ الذي اعتدت عليه ولا الأصوات المألوفة التي تحييك عند الدخول، تلك الأشياء البسيطة التي نتعامل معها كل يوم في وطننا على أنها حق مكتسب بالفعل، لا لن تجدها!
فقط ستجد تلك اللحظات الفظيعة من الصمت ثم الصمت ثم المزيد من الصمت. لن يقطعه إلا ربما كلامك مع نفسك أو ترديدك لبعض الآيات من كتابك المقدس أو ترديد بعض النغمات من هنا وهناك. كل ذلك ليس لأنك تريد أن تسمع أو تقرأ أو تردد، ولكن فقط لتهرب من ذلك الصمت الرهيب، فقط لكي تنسى أنك هنا وحدك تماما!
سينالني الكثير من النقد والتهكم وربما الغضب والسخرية من هذه النظرة. أتفهم ذلك تماما، فأنا الآن في نظر الكثيرين “متبطر على النعمة” منكر للجميل وجاحد. أتخيل ربما أن شخصا –بل أنا متأكد– سيقول لي عد أنت لوطنك الذي تحبه ولأذهب أنا بدلا منك لأستمتع وأغتنم تلك الفرصة التي يبدو أنها لا تعجبك كثيرا! وأنا لا ألوم أيًّا من تلك الأصوات التي ربما تضحكني الآن وأنا أتخيلها. لقد رأيت بعض الأشياء في حياتي وتخيلت عند رؤيتها لأول وهلة أنها سهلة سلسة، ولكن عند تجربتها بنفسي أدركت صعوبتها وعدم قدرتي عليها في بعض الأحيان.
جولة داخل النفس
لكن ما هي تلك الأشياء غير المرتبة التي أتكلم عنها؟ ما الذي أريده؟ وما هي غايتي من هذا الكلام؟ ربما هي أكثر كتاباتي غير المرتبة ولكن ذلك لأن الكلام يعكس ما أشعر به وهو الحيرة والتخبط بين المشاعر المتعاكسة والقرارات المتضاربة. لقد اخترت أن أكتب في خضم تلك الحالة النفسية غير المتزنة ليكون كلامي نابعا منها لا فقط واصفا لها ومعبرا عنها. فأنا أسطر الآن جزءا من الحوار الفعلي الذي يدور بيني وبين نفسي.
لا أعرف هل أكون سعيدا أم حزينا؟ متحمسا أم كسولا؟ مندفعا أم مترددا؟ بدون نقطة أصل يربطني بها حبل الأمان سأتوه حتما في مياه هذه البحار العنيفة. أمواج متلاطمة وعواصف وأحداث سريعة الوتيرة تكاد تغمرك كما تغمر المياه الغريق الذي أوشك على الهلاك، وبدون سترة النجاة ستجد نفسك بالفعل انتهيت.
أحاول أن أهدأ وأن أتحكم في انفعلاتي، لا أنسى كم كنت أشعر أنني طفل صغير بائس عندما أخذني أحد الطلاب وهو يصغرني بـ 6 سنين لأنهي أوراقي الرسمية. كنت مثل الأضحوكة، يأخذني هنا ثم هناك، يتكلم مع الموظفين بلغته التي لا أعرفها وينطق باسمي مرات كثيرة فأعرف أنهم يتكلمون عني، ثم يوجهون لي بعض الأسئلة فأجاوبهم بالإنجليزية التي لا يعرفون عنها إلا القليل فأعود لأشعر بالإحباط والحزن مرة أخرى.
ما هو ذلك الشيء الذي ينقصني؟ ربما أشتاق للتكلم بطلاقة، أتذكر هنا تلك الأيام التي كنت أضيعها دون أن أطمئن على أصدقائي وأقاربي، أتمنى لو تعود تلك اللحظات الآن لكي أكلمهم وأسمع أصواتهم العذبة التي كانت ستسلي عني كثيرا في هذه المواقف السيئة.
تسقط كل الأقنعة الزائفة التي كنت أرتديها في وطني عن وجهي بكل سهولة عندما أواجه هذا الصمت الرهيب صمت الغربة ، صمت في وسط الضجيج. تسمع الأصوات ولكن لا تفهم، تصدر الضحكات ولكن دون أن تشعر بالسعادة، يحرقك الحزن والأسى ولكن لا أحد يحنو عليك أو يطمئنك. هي بالفعل غربة، كلمة ثقيلة ربما لن يدرك معناها إلا من واجهها عيانا بيانا.
لماذا أتيت إلى هنا ؟
ولكن في وسط كل تلك الظلمة والتشاؤمية التي ربما غلبت بالكامل على كتابتي هذه المرة، لا يدفعني للاستمرار إلا بصيص من النور في آخر نفق الغربة المؤلم المظلم الكئيب. لقد أتيت إلى هنا لأن لدي قضية وهدف أسعى إليه. لست هنا في نزهة أو عطلة لكي أستمتع، لو توقعت المتعة فبالتأكيد سأكتئب لأنني لن أجد أي متعة هنا، إلا ربما لحظات قصيرة من تجربة الجديد وغير المألوف والتي ربما ستنسيني هذا الصمت المخيف الذي أحاول أن أهرب منه. لكن ليس هذا سببا كافيا وحده لكي أستطيع أن أستمر في الرحلة.
لقد جئت لأعيش ولو جزءا يسيرا مما أكتب عنه وأحاضر عنه وأدعو له في كلامي ورأيي وكتاباتي. لم أجيء لكي أتحول للوحة إعلانات ضخمة للغرب أو لكي أساعد في رسم الصورة الوردية عن الحياة في الغربة . لقد جئت لأكسر صنم الغربة في قلبي. ذلك المفتاح السحري ومصباح علاء الدين الذي يصور الإعلام والغزو الثقافي الذي فتك بعقولنا أنه الحل لكل مشكلاتنا وأزماتنا. اعتقاد نسف الكثير من المبادئ ودمر الكثير من قدرات الوطن البشرية والمادية وأهلك الكثير من الأجيال السابقة والمستقبلية التي عانت ولا زالت تعاني من عدم الاستقرار الأسري الذي ينتج عن الغربة.
أستطيع اليوم أن أبحث في نفسي بدرجة أعمق مستغلا الصمت الذي يجلي تفاصيل النفس وعيوبها لكي أعالجها وأعود لوطني بعد فترة من النقاهة والتطهير، إنسانا قد انتصر على شهواته وغضبه واستطاع تكريس وقته ومجهوده للعمل على تحقيق قائمة أهداف محددة. ويعود الآن لوطنه ليخدم المستضعفين ويطور في ذلك البناء الشامخ الذي تركه له الأجداد والآباء بعد معاناة ومجهود على مدار آلاف السنين.
إرث لا يعتز به إلا من عرف قيمته الحقيقية وعايشها، ولا يستهين به إلا من انهزمت عقليته أمام الغزو الثقافي الغربي الذي يشوه لنا كل ما تبقى من إرثنا وهويتنا الوطنية. فقط بهذه العقلية أستطيع أن أقهر ظلمات هذه الغيبة القاتمة.
اقرأ أيضاً:
هل فكرت جيداً أيها المسافر في قرارك ؟
لماذا رفض صاحبنا الدعوة لأحد المنتجعات ؟
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.