مقالات

لحظة الحقيقة

لحظة الحقيقة

 من منا لم تواجهه مواقف او لحظة يظل فيها حائراً كيف يتصرف؟ ومن منا رأى الفعل الصائب ولم يستطع فعله؟ ومن منا عزم على فعل الصواب وانتهى به الأمر إلى الفعل المعاكس تماماً وكأن العازم والفاعل شخصان مختلفان؟

من منا استشعر تلك الفجوة الكبيرة بين ما ينبغى أن يكون وبين ما اختاره أن يكون واقعاً؟ ومن منا يأس عندما انتهى به المطاف إلى حالة من الخذلان وارتكاب نفسه ما لا يرضى به عقله؟

إنها الثُغْرَة بين ما رسخ فى العقل وما تبعه إِتْماما فى الواقع، أو الفجوة بين العقل النظرى الذى هو مستودع النظريات وبين العقل العملي الذي هو مترجِم النظريات إلى أفعال.

عندما يفشل البعض في تنفيذ وتطبيق فكرة يؤمن بصحتها، ينسب هذا الفشل إلى الفكرة نفسها بأنها بعيدة عن الواقع وأنها تنطلق من نظرية لا يمكن أن تتخطى الورق ولا يجدي أن يتعلمها من أراد أن يفهم الحياة وينهل من خبراتها العملية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

البعض الآخر يؤمن بأهمية المعرفة ولكنه لا يسمح لنفسه بخوض اختبارات تقيس ما إذا كانت نفسه استوعبت هذه المعرفة حقاً أم أنها مازالت فى إطارها النظري.

آخرون يخوضون تجارب الحياة واختباراتها فعلا ولكن مع أول فشل فى تطبيق ما يقرّون بداخلهم أنه صحيح يصيبهم اليأس ويشيرون بأصابع الاتهام إلى الإنسان ذاته بأنه غير مؤهل لحمل تلك المعارف النظرية السامية إلى التطبيق العملى على أرض الواقع.

ومؤخراً فئة أخرى من الناس لا تؤمن أصلا بوجود معارف ثابتة، وإن وجدت فإدراك كل إنسان لها مختلف عن إدراك غيره مما يعنى استحالة الوصول لنموذج واحد صحيح عملياً.

للفصل فيما سبق نحتاج أولاً أن نفهم ما هى المعرفة.

المعرفة هى انكشاف الواقع أى إدراك الصورة الصحيحة والفهم لحقائق الأمور المعقولة –أي التي يمكن إدراكها بالعقل– مثل انكشاف الستار عن لوحة كانت مستترة وراءه أو انكشاف الرؤية عند ارتداء عدسات طبية.

ولمعرفة هل الإنسان مؤهل لنهل المعرفة أم لا، نحتاج أن نفهم ما هو الإنسان.

الإنسان جسم نامٍ حساس متحرك بالإرادة مفكر، لديه أسس فطرية محلها عقله مودعة فيه، تلك الأسس –يطلق عليها البديهيات- عبارة عن معارف أولية لا تحتاج لمعلومات أسبق منها لتتكون، يستطيع الإنسان انطلاقاً منها أن يبني معارف أخرى أكثر عمقاً وتعقيداً. ومن أمثلتها: “لكل حادث سبب” أي لكل حدث وقع لا بد وأن يكون هناك سبب لحدوثه، فلا يمكن أن تهطل الأمطار دون تكثيف للماء وارتطام ذراتها مثلاً، ولا يمكن أن تُرسم لوحة دون رسام. ومن خلال هذه البديهية يمكنه الوصول إلى وجود خالق للكون لأن الكون حادث ولا يمكن حدوثه دون سبب.

إذا فالإنسان قادر على استخدام هذه البديهيات في التعرف الأعمق على الموجودات حوله وانكشاف حقيقتها.

ولأن الإنسان متحرك بالإرادة فيستطيع حمل ذاته على الالتزام بما يقره عقله، أى أنه قادر على تحويل تلك المعارف التي كونها إلى الواقع عن طريق مطابقة السلوك مع النظرية.

أما الجزء الخاص بوجود معارف ثابتة أم لا فهى قضية قد يتعلق إثباتها بذكر البديهيات وكيفية تكوين معارف أخرى منها، وأنها تستمد يقينيتها من يقينية البديهيات التى لا تقبل الشك –وهو ما أوضحناه سابقاً- أو يتعلق إثباتها بإثبات الواقع وأننا لا نعيش فى حلم وهى قضية تُحل فى الطرح التالى: لو كان ما نعيشه حلم فلا بد من وجود واقع يتم تعريف الحلم من خلاله، فالحلم هو الخروج المؤقت من الواقع أى هو إقرار بوجود واقع.

بعد إثبات أن هناك معرفة ثابتة وأن الإنسان قادر على تحصيلها وتطبيقها، لم إذا هناك فجوة؟ لم لا يلتزم الكل بما يوقن به؟

 

لحظة لمعرفة أين الفجوة

تتعدد الأسباب منها:

– ضعف القوة الجسدية
لكي تنتقل الفكرة النظرية إلى الواقع تحتاج لأداء سلوك، والسلوك يحتاج لقوة جسدية تفعل، فقد تكتمل كل عوامل التنفيذ إلا هذا العامل فلا يتحقق الهدف.

– سلطة القوة الشهوية
فقد يكون السبب هو حب الراحة والكسل مما يعيق الفعل اللازم، أو اتباع الأهواء الذي يقاوم بعض الآلام الناتجة عن الفعل الصحيح.

– ضعف الإرادة
قد يكون السبب ضعف عام فى إرادة الإنسان وقوته فى حسم اختياراته الصائبة رغم استطاعته الجسدية، أو عدم قدرته على مقاومة ظروف خارجية تعيق استمرار الأداء الصحيح، أو غرقه فى عادات خاطئة لا يفعل حيالها شيئاً ينقذه من أسرها.

– ضعف القوة العاقلة
أى وجود قصور فى فهم النظرية نفسها، أو نقص معلومات أدت إلى تشويش الصورة الكاملة للنظرية وعدم القدرة على رؤية آثارها الحميدة أو العواقب السيئة الناتجة عن عدم الالتزام بها.

يقول ابن خلدون: “المرء يوزن بقوله، ويقوّم بفعله”، أى أن القول يدل على مدى رجاحة عقل الإنسان وسلامة معرفته، والفعل يدل على مدى قدرته على النضال أمام نفسه وتصديه لها وسطوته عليها.

الأمر إذا محل جهاد وكفاح لكى يكون الإنسان نموذجاً ومثالاً لما يحمل من أفكار صحيحة ونظريات صائبة، والاختبار الحقيقي حينما يتجلى أمام الإنسان خيارات وبدائل بعضها يُمثل تطبيق لنظريته وبعضها مخالف لها، والانتصار الحقيقي أن يختار بكامل إرادته تنفيذ السلوك الصحيح رغم مقدرته الكاملة –ورغبته الشديدة أحياناً- على فعل السلوك المخالف، والحياة بمواقفها تمثل ساحة المعركة الحقيقية التي تتعدد فيها المشاهد والأشخاص والظروف ولكنها فى النهاية اختبارات حقيقية لقوتنا وقدرتنا على الثبات والامتثال المستمر للأفكار الصحيحة والمبادئ الثابتة، هى محصلة لحظات كل لحظة فيها تختبرنا هل نقر بالحقيقة التي نراها وننقاد لها أم نتجاهل ونتكبر ونختار طريق الشقاء والسقوط.

فكم ” لحظة حقيقة ” كنت فيها البطل المنتصر؟ وكم لحظة تقهقرت وانسحبت؟ وكم لحظة انهزمت؟

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

هبة علي

محاضر بمركز بالعقل نبدأ وباحثة في علوم المنطق والفلسفة