لا تتركوني وحيدا – التربية ودورها في إنشاء الطفل تنشئة سليمة وسوية
فرحان أنا بابنى ومين يكدبنى! يكافح الأب والأم فى سبيل الصغار ويواجهون هموما ومتاعب، لكن تغمرهما السعادة حين تزين الضحكة وجه الطفل وترن قهقهته فى جنبات المكان. فما للقلب حينئذ إلا أن يطير بجناحى السعادة والرضا ! وعندئذ ننسى الآلام والهموم !
سبحان من جعل من أطفالنا مسرات لقلوبنا!
لماذا هذا الشعور بالحبور والرضا لما نرى صغارنا سعداء؟!
إننا مسؤولون عن صغارنا، ولا أكرم ممن يقدر حق المسؤولية ويرعاها. و مسؤولية الأبوين تجاه صغارهم هى بإجمال بسيط : “تحقيق سعادة الصغار” و بالتالى رؤية صغيرى سعيداً هى ثمرة أتمناها وأنتظرها فضلا عن كون سعادة الصغار البسيطة البريئة تجرنا طوعا وحبا إلى حضرتها!
صغارنا مسؤوليتنا. فهل نحن كرماء نقدِّر المسؤولية؟!
و إن فات أحد كرامة أن يكون لديه صغير يراعيه فليتصبر-إن أمكن- بصغير فى البيت أو قريب منه!
صغير فى بيتنا يجلس أمام التلفاز يشاهد حلقة كرتونية على إحدى قنوات الأطفال .. يشاهد بشغف .. تجذبه الألوان والأصوات والنغمات والحركات البهلوانية المضحكة أو المقالب المضحكة أيضا! جلست بجانبه لأشاركه وقت شغفه وسعادته لعلى أصاب بعدوى السعادة منه لكن لم يحدث ! رغم أنِّى أراه منهمكا مبتسما ضاحكا وحاله يدعو إلى مشاركته لحظة الحبور تلك!
ترى! هل الهم أعجزنى عن مشاركة الصغير؟!
ماذا كان يشاهد الطفل
لا ، إننى صدمت مما يشاهده صغيرى، كانت حلقة كرتونية قصيرة يقوم فيها طفلان (أخ وأخته) بزيارتهم الدورية للطبيب البيطرى ؛ الأخ من أجل كلبه الضخم وأخته من أجل كلبها الصغير. كان فى عيادة الطبيب بعض الحيوانات الموضوعة فى أقفاصها وحاول الأخ الإيقاع بأخته بإطلاق سراح الحيوانات وإلصاق التهمة بأخته لكن كلبها الصغير النبيه جدا يرى ما يحدث ويكتشف مؤامرة الأخ فينقذ الكلب الموقف وتفشل خطة الطفل. ولا يدرك الطبيب شيئا عن ما يحدث .الحيوانات خرجت من الأقفاص ورجعت و حدث ما حدث وهو لا يدرى! والطفلة تدرك كم أن كلبها لطيف وذكى لأنه أنقذها ! والطفل يبدو متذمرا هو وكلبه الضخم لأن خطة الإيقاع بأخته فشلت للأسف!
صدمت لأن الطفلة بدت بلهاء جدا و معتادة أن تقع فى مآذق كثيرة وينقذها كلبها الصغير الذكى !
هل انقلبت الآية وبدلا من أن يكون الإنسان مسؤولا عن الرحمة والرفق بالحيوان يصبح الإنسان أبله يحميه دائما الحيوان الناصح الذكى من أخيه!
و انتهت الحلقة وكأن شيئا لم يحدث (الوضع كويس والحيوانات فى الأقفاص و الطبيب فحص الحيوانات ومافيش مشاكل!)
انتهت الحلقة دون أن يتوجه أحد للطفل الأخ ويقول له “أنت مخطئ” ، “لماذا تخطط لتضع أختك فى مأزق؟!”
الأوضاع –شكلا- مستقرة ولا حاجة للتوجيه أو اللوم أو العقاب طالما ليس هناك خسائر! الحيوانات فى أقفاصها و لم يحدث شيء!
أما صغيرى الشغوف بمشاهدة الكرتون فرحمتى عليه!
السم في العسل
الطفل منحرف السلوك فى الفيلم الكرتونى لم يجد من يوجهه ويقيِّم سلوكه المعوج! وصغيرى لا يجد من يحمى فطرته مما يراه!
صغيرى لا يرى مشاهد عنف وقتل ودماء و….! إنه يرى حلقة كرتونية طريفة مضحكة لكن ماذا يرى أيضا ؟!
يرى إنسان يتصرف بشكل غير أخلاقى و حزين متذمر لأن تصرفه اللاأخلاقى فشل، و رغم ذلك يُصر على الاستمرار فى محاولات الإيذاء! يبدو أن حلقات الكرتون استمرارها مبني على هذا الإصرار! إصرار الأخ على إيذاء أخته حبا فى الإيذاء!.
يستمتع صغيرى بحلقة كرتونية مضحكة يرى فيها الحيوان أكثر حكمة أو “ذكاء” من الإنسان! و إن كان فى الصغير فطرة من خير فإنه يتعاطف مع الطفلة البلهاء الموجودة لتقع دوما فى مآزق ينقذها منها كلبها الذكى.
هل ما يراه صغيرى له تأثير على سلوكه فيما بعد؟!
قبل الإجابة دعنى أروى لك موقفين
الموقفين
“ما هو أهم حدث فى حياتك ولمن تنسبه؟” كان هذا سؤال الجلسة التى جمعت مجموعة من الأصدقاء وكان جواب أحدهم : ” أهم حدث فى حياتى هو قصتى وأنا صغير-أبلغ من العمر ست سنوات- مع قطعة الرفيس (هى حلوى تصنع من الطحين والسكر والتمر والزيت) كنت أتناولها كل يوم جمعة بفضل عمل أمه المضاعف والشاق، فإذا بفقير يقف عند عتبة الدار ليطلب صدقة ، ورغم الفقر وحبى الشديد لهذه الحلوى فإنى آثرت المسكين على نفسى، لأنى تذكرت حكاية سمعتها من جدتى تناولت قيمة الإحسان وثواب المحسنين” كانت هذه الجلسة فى باريس وهذا الحدث من حياة (مالك بن نبى) رحمه الله.
“مسيرة العودة الكبرى ” بدأت أحداثها أواخر مارس عام 2018 مسيرة سلمية يطل فيها الفلسطينيون من جديد علينا ببطولة سامية يعلنون فيها بشجاعة أن لهم حق و لا بد أن يعود. يذهب الفلسطينيون إلى ساحات الاعتصام ومعهم أطفالهم يتحدثون معهم عن حق العودة ويشاهدون جنود الاحتلال وهم يتربصون بشباب فلسطين ليتعلم الأطفال من هو عدوهم الوحيد!
إن الغرض من الموقفين هو التذكير بأهمية الحديث مع أطفالنا. ومن خلال أحاديثنا العامرة بمشاعر الأبوة والعطف والحب نُعلِّم أطفالنا أخلاقا فاضلة وبديهيات وحقائق لا يجدون صعوبة فى تقبلها؛ لأن نفوسهم خيرة -كبقية البشر- تقبل الحق وتتشبع به ولعلها فيما بعد تكون عاملة فى سبيله !
يمكن أن نحكى لهم حكايات خيالية ومواقف تاريخية ومواقف من حياتنا وكيف تصرفنا فيها وتعالينا على سوء الخلق والانتهازية وهكذا ..
يمكن أن نتحدث مع صغارنا على أن الإنسان مُكرَّم بعقله عن الحيوان وأن أفعالنا لا بد أن يكون وراءها سبب هو الخير وأن الإيذاء بغير حق لا بد أن يتوقف و أن يعُاقَب الُمؤذى!
ولا يخفى عليك أن مسؤوليتك لا تنتهى عند الحديث بل أفعالك عليك الانتباه لها جيدا! ألست كريما تقدر حق المسؤولية؟!
الحديث مع الطفل
لا أنكر أنى ذكرت هذين الموقفين بالذات؛ لأن لهما قيمة فى نفسى فتلك لمحة من طفولة مالك -فيلسوف النهضة ،وذاك مشهد من أرض الحرية والكرامة -فلسطين . لكن هل ترانى قصدت بهما –أيضا – أن تنأى بطفلك عن مشاهدة التلفاز وكارتون الأطفال وتعتكف معه تتحاكيان حكايات وأحاديث عن الأخلاق و فلسطين والتاريخ والبطولة وأن توجه -باعتكافك هذا- طفلك أن يكون على شاكلة معينة رسمتها أنت له ولن ترضى عن نفسك إن أراد غيرها؟!
بالطبع لا ، إن الغرض الأسمى من علاقتنا بصغارنا سواء بالكلمة أو الفعل هو الحفاظ على إنسانية الطفل وحبه للحق والخير ولا يهم بأى شكل فى الحياة يسلك بعد ذلك ؛ كيميائى أم مفكر أم موسيقى أم لاعب كرة أم حلوانى أم طبيب أم…. المهم أن يكون إنسانا فاضلا.
إننى أشفق على صغارنا الذين يتشربون أفكارا خاطئة وهم فى منتهى السعادة ولا شك تصبح هذه الأفكار بالتدريج فيما بعد أساسا يحرك سلوكهم! فيكبرون بشرا مختلّين. فما الحل!؟
إن بعض الحل فى حديثنا وعلاقتنا بصغارنا! لو أن الصغير الذى فى بيتنا يعرف من خلال حديث الكبار معه وتصرفاتهم التى يراها يوميا أن من يؤذى الآخر بغير حق مخطئ مستحق للعقاب ثم أثناء مشاهدة حلقة الكرتون قمت بتنبيهه إلى هذا الأمر أو حتى فى آخر يومه أسأله ماذا شاهدت فى التلفاز اليوم؟! ، لو كان هذا لكان فى مشاهدة حلقة الكارتون فائدة له حيث يتعلم انتقاد ما يراه ويُرسِّخ مبادئه التى تعلمها و تحلو صداقتى والصغير.
هذه وسيلة لا يهتم بها سوى أبوان كريمان يقدران المسؤولية فكيف أنت؟!
هذه وسيلة فعالة؛ فالطفل يتعلم انتقاد الأوضاع الخاطئة طالما سنه وقدرته العقلية يمكنَّانه من ذلك (أى من عمر ست سنوات فأكثر)على أساس ما تعلم من أبويه ويعتاد الحوار ويكتسب ثقة أكبر وتتثبت الأخلاق الفاضلة والسلوكيات الحسنة وتتأصل فيه.
هذه وسيلة فعالة يرى الطفل خلالها بعض أشكال الشر ويعرف أنه شر، ولا شك أن معرفة الخير والشر أنفع للإنسان من الاقتصار على معرفة الخير فقط وإنسان العصر المسكين وسط هذا السيل من الفكر الخادع محتاج لمعرفة الحق والباطل ، الخير والشر.
تذكر معى هذا القول:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ، و من لا يعرف الشر من الخير يقع فيه.
ليست برامج كارتون الأطفال شر تماما حتى نبعد أطفالنا عنها، ولا إبعاد الطفل هو أفضل طريقة للتربية.
لكن تأدية دورك كأب أو أم فى التربية يجعل من الكارتون الذى يعرض فكرة خاطئة وسيلة تعلم جيدة!
وننبه أن الطفل – خصوصا فى سن مبكرة- من عمر العامين لا يجلس وحده أمام التلفاز؛ فهذا السن يبدأ فيه الطفل بتكوين صورة ذهنية عن العالم. لذلك عندما يبدأ الطفل فى الانتباه للتلفاز والمواقف حوله علينا إعطاء “ما يفهمه الطفل عن عالمه المحيط” أولوية بالغة.
أليست رؤيتك للحياة هى التى تتصرف وفقها؟! ماذا لو تعلم الطفل أن الكذب عادى ولازم فى الحياة لينجو ويتهرب من المسؤولية؟!
ماذا لو تعلم الطفل أن السعادة فى عمل المقالب وإيذاء الآخر بلا هدف ولا مبرر سوى الإيذاء وحب الانتصار الزائف أو الضحك؟!
صغيرك يستجير: لا تتركنى وحدى يربينى عالم غير أمين لا يهمه أمر إنسانيتى! لا تخلع يدك عنى! أرجوكَ أبى! أرجوكِ أمى!