“أُغالِبُ فيكَ الشّوْقَ وَالشوْقُ أغلَبُ … وَأعجبُ من ذا الهجرِ وَالوَصْلُ أعجبُ
أمَا تَغْلَطُ الأيّامُ فيّ بأنْ أرَى … بَغيضًا تُنَائي أوْ حَبيبًا تُقَرّبُ”[1]
منذ العصور البدائية، وقبل الميلاد بآلاف السنين؛ عرف الإنسان الفن، ورسم على جدران الكهوف، رسَمَ واقعه من حيوانات و”ماموث” ومخاطر تواجهه، ورسم أعماله من صيد وجمع للطعام وغيره. عبّر عن مخاوفه وأحلامه، وعن معتقداته وسلوكه.
ومع التطورات الاجتماعية والسياسية والفكرية وتغير شكل الاجتماع الإنساني؛ ظل للفن دورًا هامًا في حياة الشعوب والأمم. وتنوعت أشكاله من شعر ومسرح وموسيقى ونحت وغيرهم الكثير. وحتى يومنا هذا تحقق الأعمال الفنية من أفلام وأغانٍ وغيرها انتشارا واسعًا وتأثيرًا كبيرًا بين الناس، وتحمل الثقافات والرؤى، وتحرك العواطف والنفوس، وتحلم وتخاف وتتأمل وتتألم وتلتذ.
كما نجد عند الإنسان دائمًا ومنذ طفولته التذاذًا بالتشبيه والمحاكاة للطبيعة وللآخرين، وهو التذاذ يميزه عن الحيوانات العجماء، كما نجد له التذاذًا بالأوزان والألحان.
لكن ما هو الفن؟
يمكن تعريف الفن بأنه فعل إنساني يقوم بالمحاكاة الجمالية للواقع أو للفعل الإنساني، بغرض التأثير في النفوس بالقبض أو البسط.
والمحاكاة هي التشبيه والتخييل. ولكي تكون المحاكاة فنًا يجب أن تكون جمالية أو جميلة. فالجمال من ذاتيات الفن.
وهذه المحاكاة هي سلوك إنساني. ولكي يكون الإنسان فنانًا يحتاج ذلك لملكة في نفسه، وقد توجد الملكة كعادة يكتسبها الإنسان بنفسه أو من الآخرين المحيطين به، أو بتعلم وصناعة ونحوهما. كما قد يختلف استعداد البعض لاكتساب الملكة؛ فيكون البعض أكثر موهبة من غيرهم.
وكل تشبيه أو محاكاة تكون محاكاة لشيء بشي، كأن تحاكي الظالم بالحيوان المفترس البشع! فهناك إذن: محاكاة وهي جميلة في ذاتها في الفن، وهناك محاكى أو مشبه، ومحاكى به أو مشبه به.
فيقوم الفن بتشبيه الجميل بالجميل، أو القبيح بالقبيح. أو يشبه القبيح بالجميل، أو الجميل بالقبيح. أي يقوم بتجميل القبيح أو تقبيح الجميل. فعمل الفن بشكل عام يمكن حصره في التجميل والتقبيح.
وعمل الفن والمخيلات في النفس هو تحريك العواطف والمشاعر بالقبض والبسط، حيث تلتذ بالجمال وتميل إليه، فتميل لما يحاكيه الفنان جميلا، وتنفر مما يحاكيه قبيحا.
وهنا تظهر بعض النقاط المثيرة للجدل في الفن؛ وهي قدرته على تقبيح الجميل وتجميل القبيح. وقدرته على مخاطبة العواطف مباشرة متجاوزا العقل؛ فتظهر خطورته كأداة يمكنها تحريك الإنسان لأمور قد يرفضها عقله.
وتختلف الرؤية للفن والجمال باختلاف الرؤى الفلسفية، فالمدارس النسبية مثلا تجعل الجمال نفسه نسبيًا متغيرًا وليس مطلقا أو ثابتًا. والفلسفات التي ترى غاية ما للوجود الإنساني ترى أن الفن يجب أن يخدم هذه الغاية، أما المدارس العبثية فترى الفن والسلوك الإنساني كله بلا غاية أو هدف. وهكذا.
ولأن عملية المحاكاة الفنية هي سلوك إنساني كأي سلوك آخر؛ لذلك اختلفت القيم الحاكمة لهذا السلوك باختلاف الأيديولوجيات الباحثة فيما ينبغي أن يكون عليه السلوك الإنساني. فالأيديولوجيات المقدسة للحرية الفردية جعلت للفنان حريته الفردية التامة في إنتاجه الفني، وتلك المقدسة للمجتمع طالبت الفنان بإنتاج يصب في مصلحة المجتمع كما تراها، وهكذا في كل أيديولوجية.
وتعددت المدارس الفنية بين طالبة الجمال لذاته والفن لذاته، معتقدة أن ربط الفن بغاية أخرى يؤثر على جمال المنتج الفني وغايته. وبين طالبة للجمال لأجل غاية اعتقادية أو سلوكية أخرى، معتقدة أن هذه هي وظيفة الفن الأساسية والطبيعية، فتحريك النفس نحو جمال ما يدفعها طبيعيا لاتخاذ موقف من هذا الجمال.
وقد جرى جدل كثير في هذه الناحية: هل الفن للفن والجمال؟ أم لغاية أخرى نسخّر لها هذا الفن؟
إن جمال الشيء هو أن يكون على ما يجب له. فيكون الجمال في الكمال والخيرية والبساطة والوحدة، وأما في الكثرة والتركيب فيكون الجمال فيها بالاعتدال والعدل والنظام والتوازن بين أجزائها فيوحّد كثرتها ويجعلها واحدا متناغمًا متسقًا.
وكل جمال يستحق الحب لذاته، ويُلتذ به عند إدراكه ونيله.
ومبدأ إدراك الجمال إما الحس أو الخيال أو الوهم أو العقل، وكلما كان الشيء أجمل وأكمل كان الحب له أشد واللذة به أشد، وكلما كان الإدراك أتم وأشد اكتناها كان الالتذاذ والحب له أكثر.
والإدراك العقلي أكمل من الحسي والخيالي؛ حيث يدرك الأمور المطلقة الخالدة الكلية ويتحد بها ويصير هو هي على وجه ما، ويدرك حقيقتها وذاتها وجوهرها وليس ظاهرها كما الحس. ولذلك فالإدراك العقلي الخالص عن الشوب هو الأشد التذاذا وحبا، والأمور المجردة الكاملة الشريفة هي الأجمل.
وقد قصرت الرؤى المادية والخيالية الجمال على ذلك المدرك بالحس والخيال والوهم وتناست أو نست الجمال الحقيقي العقلي، برغم أنه أتم وأجمل والالتذاذ به أعلى.
ولكي يكون الفن جميلًا كأشد ما يمكن له أن يكون؛ وجب أن يكون في طول الجمال الحقيقي العقلي وتحته وتابع له، وهو جمال الحقيقة والخير، جمال الاعتقادات الحقة والأخلاق السمحة والسلوكيات الخيرة. الجمال الإلهي وجمال عالم الغيبيات القدسية.
فإذا ما انحرفت بوصلة الفن واقتصرت على الإدراكات الأقل درجة كالحسية والخيالية والوهمية، ونست ما فوقها من كمال وجمال حقيقي وتعلقت بالكمالات الوهمية؛ فإن الفن يكون جاذبا للإنسان لأسفل نحو عالم المادية والدرجات البهيمية. وأما إن كان في طول الجمال الحقيقي فهو جاذب له إلى أعلى؛ إلى عالم القدس.
فالفن يجب أن يكون طالبا للجمال لذاته، لأن الإنسان طالب للجمال لذاته، لكن يجب أن نسعى جاهدين لإصابة الجمال الحقيقي. والغاية في الفن طبيعية، لكن يجب أن تكون غاية صحيحة مستدل عليها عقلًا وفي طول الكمال والجمال الحقيقي. فلا تعارض بين الرؤيتين إن تم ردهما وضبطهما بميزان دقيق هو “العقل”. وفي هذه الحال لن يجمّل الفن إلا جميلًا ولن يقبّح إلا قبيحًا، ولن يحرّك المشاعر والعواطف إلا نحو كل جميلٍ حقـًا!
يقول تشارلس مورجان: “إنما قيمة الفن في قدرته على أن يضع أمام الإنسان مرآة تمكنه من رؤية ما كانه وما يصير إليه، ومن أن يلمح نفسه–بعمل خيالي مبدع-جزءًا من الطبيعة، وعساها تمكنه من أن يعرف الله في نفسه.”[2]
——–
[1] المتنبي، موقع “أدب”، مطلع قصيدة “أغالب فيك الشوق والشوق أغلب”.
[2] تشارلس مورجان، الكاتب وعالمه، ص 27.
مراجع
- تلخيص كتاب أرسطو طاليس في الشعر، تأليف أبي الوليد بن رشد، ومعه جوامع الشعر للفارابي، تحقيق وتعليق د. محمد سليم سالم، القاهرة، الجمهورية العربية المتحدة، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، لجنة إحياء التراث الإسلامي، الكتاب الثالث والعشرون، 1971.
- النجاة في الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية، تأليف الشيخ الرئيس الحسين أبي علي ابن سينا، نقحه وقدم له الدكتور ماجد فخري، دار الآفاق الجديدة، بيروت، طبعة 1982.
- الكاتب وعالمه، تأليف تشارلس مورجان، ترجمة د. شكري محمد عياد، راجعه مصطفى حبيب، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012.
- موقع “أدب”، الموسوعة العالمية للشعر العربي، العصر العباسي، شعر المتنبي، صفحة 3، عنوان القصيدة أغالب فيك الشوق والشوق أغلب، عنوان إلكتروني: http://www.adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=5464&r=&rc=35
- الكاتب وعالمه، تأليف تشارلس مورجان، ترجمة د. شكري محمد عياد، راجعه مصطفى حبيب، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012.