ذئاب الجبل.. هل المسلسلات القديمة فقط هي من تدعو للحكمة و القيم الفاضلة؟
على إحدى القنوات التليفزيونية التي تعرض المسلسلات المصرية القديمة، يُقدَّم “ذئاب الجبل” مسلسل قديم ربما عمره أكبر من عمري، تحكي والدتي أنه عمل شهير للتليفزيون المصري.
جذبتني بعض المشاهد منه وخاصة تلك التي تحوي حوارا للشيخ”بدار” كبير”هوارة” الشيخ الكفيف الأزهري الذي يتسم بالحكمة والعدل ويلجأ إليه أهل”هوارة” في أي مشكلة صغيرة بدلا من اللجوء للمحكمة، لأنهم”شايلين المحكمة للكبيرة” وبالكبيرة يقصدون جرائم القتل وما شابهها وما يعجز الشيخ”بدار” عن الحكم فيه، وطبعا حكمه نافذ على الجميع.
تدور قصة المسلسل في محافظة قنا بصعيد مصر، وبإحدى قراها البسيطة، ووسط عائلة كبيرة جدا يتوزعون بين المحافظات المختلفة بل وخارج مصر أيضا.
أهل “هوارة” لديهم تقاليدهم الخاصة والتي لا يجرأ أحد على معارضتها وإلا كانت العواقب خطيرة و”ممكن تطير فيها رقاب”، يعينون كبيرا لهم أي شخص يلجؤن إليه في حل النزاعات البسيطة بينهم دون الحاجة للجوء للشرطة، وهو تقليد متبع في كثير من قرى مصر، وحكم هذا الشخص يمتثل له الجميع لتحل المشكلات البسيطة بهدوء.
الشيخ بدار
كبير هوارة هو الشيخ بدار متعلم أزهري، بينما أغلبية هوارة لم ينالوا حظا من التعليم إلا قليلا، وبعيدا عن التعليم المدرسي فإنه ذو عقل متفتح حكيم يحتكم للحق والعدل ويجعل لهم الأولوية على”تقاليد هوارة”، سعى لتعليم أولاده”بدري ووردة” حتى أنهى بدري تعليمه الجامعي ووردة على وشك الحصول على شهادة الثانوية العامة في الوقت الذي لا تتعلم فيه بنات “هوارة” ، إلا أن الشيخ بحكمته وعقله يخالف تلك التقاليد ليصمم على تعليم ابنته.
وليست هذه هي فقط التقاليد الخاصة بالبنات لديهم، بل أيضا هناك تقليد أغرب أن بنات “هوارة” لا يتزوجون إلا “هواري” وإن لم يكن كفء لها فهو دوما أولى بها، والشيخ بدار يعرف ذلك ويصعب عليه جدا أن يحرم ابنته من إكمال تعليمها وأن يزوجها لأحد ابناء عمومتها وهو يعرف جيدا أنه لن يكون هناك أي توافق بينهما!
تدور الأحداث في المسلسل ليأتي شاب متعلم وعلى خلق ويعمل مهندسا لخطبة “وردة” ليوافق الشيخ “بدار” متحديا بذلك تقاليد “هوارة” ويتحمل المسئولية كاملة ويدافع عن موقفه بأن الحق أقوى من العصبية ومن التقاليد، وتستمر الأحداث..
بتأمل بسيط للمسلسل يمكنك أن تكتشف أن الحكمة والعقل هي الصوت الغالب والأعلى في سير الأحداث، وأن أحداث المسلسل تسير لتجعل العلم والخلق يُكسبان الإنسان مكانة حقيقية لا يكتسبها فقط بالمال، وأن الزعامة الحقيقية أساسها حكمة الإنسان ورغبته الحقيقية في إصلاح حال قومه وكما قال الشيخ “بدار” : {الكبير هو اللي يغير الناس للصالح، مش اللي يطاوعهم على الباطل}.
يناقش المسلسل مشكلات عديدة تنتشر في مجتمعنا مثل التعصب الأعمى للتقاليد والأعراف وإن خالفت المنطق والعقل، وأن الركون للمبادئ والقيم والثبات عليها دوما منجاة للإنسان، منجاة له من الصراع مع نفسه وحتى مع الناس، وأن مظاهر القوة المادية والثروة لا تغني الإنسان على الحقيقة إن كان يفتقر للتعقل والحكمة والضمير اليقظ.
الدراما الحديثة وضياع القيم
ليس الغرض من التعرض للمسلسل حكي قصته للتسلية، لكن للتأمل في الحال الذي وصلت إليه الدراما والسينما في عصرنا الحديث؟
كيف ضاعت منها القيم والأخلاقيات فصارت إسفافا وانحلالا يعرض على شاشاتنا وفي بيوتنا في كل لحظة يهدد عقولنا وقلوبنا، انقلب الوضع تماما فصارت البلطجة والفتونة في أفلامنا ومسلسلاتنا سبيل قوة الإنسان بعدما كانت قديما العقل والأخلاق والحكمة والضمير.
لسنا ندعو للتباكي على القديم وفقدان الأمل في أي جديد وكأن العقل الإنساني قد جفت منابعه الخيّرة فلم يعد ينبت إلا شرا، ولا من أنصار التمسك بأي قديم فقط لأنه تراثنا وقديمنا، لكن نتخذ من العقل مرشدا وهاديا للخير فنلحق ركبه قديما كان أو حديثا.
دور الفن الخطير
للفن دور خطير جدا في تشكيل شخصية ووعي مجتمعاتنا ، فالمحتوى العنيف وغير الأخلاقي الذي يبث يوميا لتشاهده عيون الصغار المتعطشة للقدوة والمثل والنموذج؛ يخلق مسوخا في مجتمعنا مشوهة تحركها شهواتها وغرائزها ويدفعها الغضب الأعمى وحب البلطجة وبسط السيطرة والنفوذ، والرغبة في التجريب المستمر لأي شيء وكل شيء تقليدا للبطل الفلاني أو العلاني!!
أين الشيخ “بدار” في أعمالنا الفنية الذي يرجح كفة القيم والمبادئ وينطق لسانه بالحكمة والأخلاق ويأمر بالعدل واتباع الحق ولو كانت العاقبة خطيرة؟
أين نموذج البطل صاحب الأخلاق الذي ينتصر لمعنى وقيمة حقة؟
إذا كنا قد قدمنا أعمالا فنية تعكس القيم والمبادئ والفضيلة سابقا فهذا يعني قدرتنا على تقديم المزيد منها وإنقاذ شبابنا وأطفالنا من بيئة الانحلال وغياب المعنى والقيمة والغاية من الحياة التي يرسمها “فننا” الحديث في معظمه.