حمزة نمرة .. فنان ولكن ما تأثير أغنيته الأخيرة “داري يا قلبي ” ؟
كُنت أُشاهد لقاءً تلفزيونيًا للفنان حمزة نمرة ولفت انتباهي حديثه عن كواليس أغنية “داري يا قلبي”، حمزة يربط الفن بالواقع، والكثير من أبناء وسَطه يدّعون ذلك، إلا أن حمزة يجتهد في فهم الواقع ويُخرجه من حيز الحب الرومانسي الضيق، فيُغني عن الحُب بمعناه الأعم وعن الأمل وعن طبيعة الدنيا والمقاومة والإصرار والوطن والغُربة والعلاقات الاجتماعية، وعن الإنسان وماهيته واحتياجه، هو مُثقف يجتهد في فهم الواقع ويقدم لونًا فنيًا لا يقدمه الآخرون ولذلك هو في مكانة خاصة في قلوب الجمهور خاصة الشباب، ولكنه وضع لنا مؤخرًا سُمًّا في العسل بنية طيبة دون أن يدري!
فكرة الأغنية
قال حمزة في لقائه أن قلوبنا تُشبه خزفًا تراه فتظن أنه سليم ولكنه في الحقيقة مُهشم ولو لمسته لانهار، ندّعي القوة والسلامة ولكننا على وشك الانهيار من شدة ضغط الدنيا، وصل حمزة في اجتهاده في فهم الواقع إلى أن الدنيا قليلة القيمة مُستشهدًا بأغنية صوفية قديمة تقول فيما معناه أن الدنيا عبارة عن باب ندخله ولا نلحق رؤية ما حولنا بشكل كامل لأننا نجد أنفسنا نعبر من باب موازٍ يؤدي إلى الناحية الأخرى، وفي أثناء عبورنا يسبقنا آخرون في الخروج فنُكمل ما تبقى لنا بدونهم، والسير يُجبرنا على البعد عن أماكن نُحبها والظروف تأخذ منّا أشياء نعزّها،
استنتج حمزة أن هذا هو سبب الكسر الذي بداخلنا، كل شيء يزول، كل شيء إلى خلاص ونهاية، فلماذا أُحب طالما أن الفراق مكتوب ولماذا أتعلق بمكان طالما أنني سأتركه بشكل أو بآخر، هذه هي الفكرة التي ترجمها حمزة إلى أغنية استمع لها أكثر من 50 مليون على يوتيوب.
“كل اللي معاك في الصورة غاب، وطنك والأهل والصحاب، كم واحد ودّع وساب من غير أسباب، شايف في عينيك نظرة حنين بتحن لمين ولا مين، طول عمرها ماشية السنين والناس ركاب.”
“كان مكتوب نمشي الطريق ونفارق كل مدى شيء، اتسرق العمر بالبطيء ورسي على مفيش.”
هذه مقتطفات من الأغنية.
أردتُ وضع الأغنية على ميزان الفلسفة ثم التحدث عن دور الفنان في المجتمع، ولكن دعونا أولًا نسترجع الذكريات مع حمزة.
حمزة قبل أن يُداري
حمزة نمرة في السنوات الماضية غنّى عكس ذلك، ربما الوضع الحالي سبّبّ يأسًا وإحباطًا للكثير، كنت سأعذر حمزة ولكني تذكرته وهو يقول “مهما نقع نقدر نقوم… نشق نتحدى الغيوم” “يهمني حلمي البريء يفضل بروحه جنبنا مهما يطول بينا الطريق… لو حتى تهنا يا صديق… يرجع لقانا يضمنا على حلمنا”.
الغربة التي قدمها حمزة في داري يا قلبي قدّم عكسها في تذكرتي رايح جاي عندما قال “لو طالت المسافات أنا والأمل إخوات” و “لكني مش قلقان تذكرتي رايح جاي” رغم البعاد الذي في طعمه كالصبار والغربة التي في وحشتها كالليل البهتان إلا أنه أصرّ على العودة وعدم الاستسلام.
حين قال “إنســان جواك وجوايا… إنســان لــه حلــم له غايـة”، أقنعنا أن الغاية ثابتة لا تموت والقضية النبيلة ستحيا وتبقى، وأن الإنسان الذي يرتبط بالباقي الثابت لن يفنى ولن يشعر بالخسران ولن يُسرق عمره ويرسى على مفيش!
“اللـي معـاه علـى طــول مــش ليــه… ولا حــتى روحــه ملـك إيديـه” تعلمنا من حمزة أن الإنسان لا يملك نفسه لأنه ملك لربه حيث سعادته تكمن في إشباع القضية، لم يكن الإنسان محور ذاته عند حمزة، لم يكن يعيش بأنانية، فلماذا في هذه الأغنية أبعد الإنسان عن العطاء والإيثار والنظرة للعالم الآخر وجعله تائهًا وخائفًا وحزينًا على ذكرياته الشخصية.
داري يا قلبي
“داري داري يا قلبي مهما تداري قصاد الناس حزننا مكشوف… واهو عادي عادي محدش في الدنيا دي بيتعلق بشيء إلا وفراقه يشوف” الذي يسمع تلك الأغنية لا يتصور أبدًا أن نفس القائل قال في موضع آخر “علـى بـاب الله راضـى بكــل حال… علـى بـاب الله… عمـر ما قلبـى شـال… ما تعودتش أسيب… للكُـره فى يـوم مجـال”.
الموت والسكوت والتغير أربكوا حمزة في هذه الأغنية رغم أنه حاصر حصاره من قبل وأعلن عن هزيمة السكوت وتحدي الموت وأسْر السجّان في أغنيته المُلهمة “حاصر حصارك”
لماذا هذا الذل والانكسار في هذه الأغنية، لماذا لم نُحاصر دموعنا وخضوعنا والذل فينا لمّا ركعنا كما دعوتنا؟
لماذا يُقدم لنا حمزة وجهتي نظر مختلفتين حول نفس القضايا؟
رد الفيلسوف العربي ابن إسحاق الكندي على “داري يا قلبي”
في رسالته “الحيلة في دفع الأحزان” يرد ابن الكندي سبب الحزن إلى تعلقنا بالزائل الفاني وابتعادنا عن الدائم الثابت، إن العالم المادي الذي نعيش فيه يتحول من حال إلى حال دائمًا، وهذه حقيقة تدعمها العلوم التجريبية، “المادة متغيرة” هذه أحد قوانين الفيزياء، نفقد أناسًا إما للموت أو للسفر أو لتغير معاملتهم، نفقد أشياء ثمينة للتلف أو للبيع كسيارة أو هاتف محمول مثلاً، نفقد أماكن عزيزة علينا لإغلاقها أو لابتعادنا، الكون المادي به حالة حركة وانعدام ثبات تجعل الأشياء تفقد ماهيتها، هذه طبيعة العالم الفلسفية والعلمية
أمر يدعو لليأس والإحباط فعلاً، أمر يجعل حمزة يُغني “داري يا قلبي”، ولكن من قال أن الوجود كله فان ويتغير؟!.
في زوايا أخرى من الوجود هناك ما هو ثابت ودائم، والتعلق بالثابت الدائم يوفّر للإنسان مصدر السعادة الحقيقية.
يقول الكندي “الثبات والدوام موجودان اضطرارًا في عالم العقل”، أي في المعقولات أو المعنويات أو الروحانيات -سمّها كما شئت- التي ليست بمادية ولا تخضع لقوانين التغير والفناء، كالحب والسكينة والرضا والسلام النفسي والعلم والرحمة،
ربما يسرق أحدهم محفظة نقودك أو مكانتك أو وظيفتك أو يوقع بينك وبين إنسان عزيز، ولكن من الذي يستطيع سرقة إيمانك في قلبك أو نشوتك من كتاب زاد علمك أو كان سببًا في سكينتك مع ربك أو أحسست بسعادة بسبب مساعدة عاجز أو راحة ضميرك لقول كلمة حق أو رضاك على إنجازك في عملك؟
الماديات والروحانيات
فعل العقل إذا استمر سيعطيك سعادة دائمة لكن فعل المادة سيجعلك تملّ، لن تملّ من عبوديتك للإله أو من فعلك للخير أو من استزادتك من العلم، ولكنك ستملّ من الكباب مثلاً إن تناولته كل يوم، ومن جزر المالديف إن زرتها كل أُسبوع!
لن تملّ من الروحانيات بشرط أن تُحكم سيطرتك على شهواتك، إن الروحانيات منافس قوي للماديات ولو كانت الشهوة مُستفحلة فيك فإنها ستقاوم الروحانيات بشدة إذا أدخلتها عليها، لذلك قم بتسليح الروحانيات داخل نفسك جيدًا إن أردت لها النصر، قال شاب لحكيم “بداخلي ذئبان يتصارعان أحدهما يدعوني للخير والآخر للشر” فرد الحكيم “سينتصر الذي تُطعمه”
الإنسان الذي يشرب السعادة من نهر المعنويات، الإنسان الذي تتمحور أُمنياته حول الصعود والعروج إلى عوالم الوجود الأكثر كمالًا بعد الخروج من هذا العالم الذي يُمثل أدنى درجات الوجود، الإنسان الذي همّه هو الالتحام بمصدر الوجود ومنبع المعنويات -الباري عز وجل-، إنسان كهذا هل سيرى مرور العمر “سرقة بالبطيء رست على مفيش؟!”
الفن والواقع
الواقع مؤلم، أتفهم ذلك، ولكن أن يُعبر الفن عن الواقع فقط فتلك نصف الصورة التي تضر أكثر ما تنفع، التعبير عن الواقع دون تقديم مقترحات لحله يُعتبر ترسيخًا للواقع في النفوس، هذا الشاب اليائس المُحبط عندما يسمع “داري يا قلبي” سينغرس اليأس والإحباط في نفسه أكثر وأكثر، الفن يجب أن يُعبر عن الحق في المقام الأول، الفن يقول أن الواقع يجب أن يطابق الحق، الفن يشرح ويقدم الحق، الفن حين يعرض شرور الواقع فهو يعرضها لكي يحلها وليس لمجرد العرض الذي يتسبب في ترسيخ الشرور في المجتمعات والنفوس، إن لم يكن هناك بديل للشرور فطبيعي أن يتم ترسيخها مع كل عرض يعرضها دون أن يقدم حلًّا.
إن أراد الفنان عرض الواقع فليعرضه مصحوبًا بالحل، وإن أراد حلًّا يطابق الحق ويعالج الواقع بشكل سليم فعليه أن يكون مُفكرًا، نعم يجب أن يكون الفنان مُفكرًا، على الأقل يكون مُحيطًا بأوليات الفلسفة والمنطق والعلوم الاجتماعية إن أراد أن يكون فنانًا حقيقيًا.
أحترم حمزة في اجتهاده لتقديم فن محترم، وهو بالفعل يُقدم فنًّا محترمًا، لكن هذه الأغنية -وفي الحقيقة أغانٍ أخرى له- لا تطابق الفكر الرشيد، تحية لكل فنان يخرج بفنه من حيز الشهوة لحيز تأصيل الأفكار، ولكن عليه أن يتبنى أفكارًا حقيقية، والأفكار الحقيقية تأتي بالمنطق والفلسفة.
اقرأ أيضاً .. من ” أحلم معايا ” لـ ” داري يا قلبي ” .. لماذا لم يحبنا العالم ؟
اقرأ أيضاً .. هو في امل ؟
اقرأ أيضاً .. الفراغات التي يتركها الراحلين