مقالات

جبت إيه لحماتك؟ – معاناة العروسة وأهلها مع تقاليد المجتمع

حكت لي والدتي عن حلقة شاهدتها في برنامج تليفزيوني، اتصل فيه بعض أهالي  العروسة في إحدى مناطق محافظة الجيزة بمصر، يشكون مشكلة تواجههم، ويطلبون تدخل منظمات المجتمع المدني و”بتوع حقوق الإنسان”.

مشكلة أهالي البلدة هي بعض الأعراف الخاصة بهم، المرتبطة بالزواج؛ حيث يتوجب لديهم على أهل العروس، أن يهادوا والدة العريس”حماتها” قبل الفرح بثلاجة وغسالة وبوتاجاز وسخان ومروحة، فضلا عن بعض أطقم الحلل والأطباق والأكواب، بالإضافة إلى هدايا يوم الصباحية من شكائر الأرز والبطاطس والبصل والدقيق، فضلا طبعا عن الزيت والسمن البلدي وكراتين الفاكهة والخضروات، هذا إلى جانب مئات الكيلوجرامات من اللحم والطيور بأنواعها المختلفة!!

وهذا فقط ما أسعفتني به الذاكرة، فقد ظلت والدتي تعدد الأشياء الكثيرة، والتي لا يتصور عقل ولا منطق، أن هناك من يلزم نفسه بكل هذا!

أزمة أهالي العروسة

وكل هذا طبعا غير جهاز العروسة نفسها، وصباحية العروسة نفسها، غير أن على والد العروسة أن يتأكد من إن “جهاز حماة بنته” من أجود الأنواع، لإن هذا بالتأكيد يضمن لها مستقبل وحياة زوجية أفضل، ويحميها من “معايرة” حماتها لها بقولها”وأنتي جبتيلنا إيه؟! “.

ونتيجة لعدم قدرة الكثير من الأهالي على تلبية كل تلك الطلبات، فإنهم يقترضون الكثير من الأموال التي لا يستطيعون سدادها، ليجدوا أنفسهم خلف أسوار السجون، أو بعضهم يؤجل زواج بناته حتى يستطيع جمع ما يكفي من الأموال لهذه المتطلبات!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

اتصل بعض أهالي تلك القرية بالمذيع في البرنامج التلفزيوني، ليطلبوا تدخل المنظمات المعنية بحقوق الإنسان، للحد من ذلك.

المغالاة في متطلبات الزواج

تلك الظاهرة أصبحت للأسف منتشرة جدا في مجتمعنا، المغالاة في المتطلبات المادية للزواج، نعم تتخذ أشكالا، وربما أيضا مستويات مختلفة، فتجد بعض المناطق مثلا كالنموذج الذي أشرنا له، ومناطق أخرى تكون المغالاة في جهاز العروسة نفسه، أو في ترتيبات الفرح من قاعة فخمة، أو أنواع الأطعمة والأشربة غالية العواالثمن، فضلا عن فقرات حفل الزفاف التي لا تقتصر على المغالاة فقط!

وطبعا الإفراط في الماديات من جانب العروسة وأهلها، لابد وأن يترافق معه إفراط من جانب العريس، فهم بالتأكيد لن يرضوا بمستوى أقل من ذلك لابنتهم!

تلك المتطلبات المادية الكبيرة، تفرض بشكل واضح نفسها في معايير اختيار شريك أو شريكة الحياة، حتى أنها أصبحت المعيار الأهم عند الكثيرين!

للأسف مجتمعاتنا تاه منها مفهوم الزواج الحقيقي وفلسفته، وكل تلك الاستعدادات، عندما تتزامن مع ارتفاع الأسعار الذي نشهده فإنها تخلق أزمة حقيقية أمام كل شاب وفتاة يريدون الزواج، وأمام كل أسرة تحاول مساعدة أولادها أو بناتها للزواج حتى اصبح زواج البنت أو الولد هم وحمل يثقل كاهل الأسر، ويستنزفها كما لاحظنا.

اختزال الزواج في المادة

كل هذه التجهيزات و المتطلبات تعطينا مؤشراً عن أن نظرة مجتمعنا حاليا للزواج هي نظرة مادية تقيِم الزواج الناجح من خلال عدد مفارش السرير التي تمكنت العروس من شرائها، ومعرض الموبيليا الذي اشتروا منه الأثاث الفخم، ونوع الغسالة، وتقدير أهل الزوج للزوجة مرتبط بماركة الثلاجة، أو بعدد كيلوجرامات اللحم التي أهداها والدها لحماتها!

تلك النظرة تقلل من أهمية العوامل المعنوية كالقيم والأخلاق والتوافق الفكري كعوامل أساسية ورئيسية يقوم عليها بنيان الأسرة أصلا، وتشكل أعمدته التي تقيه الهزات القوية، والضغوط الحياتية المتعددة، واختلاف بعض الطباع التي كثيرا ما تعكر صفو الحياة الزوجية إذا لم يتمتع الزوجان بالأخلاق!

وقديما تزوج أجدادنا وجداتنا بنفقات أقل من ذلك كثيرا، واستمرت زيجاتهم فترات طويلة في بيوت بسيطة ماديًا في الغالب، لكن تنعم بالسعادة والاستقرار، وشيوع الرحمة والرفق بالآخر وتقديره، والاهتمام به ورعايته، ولم يحُل غياب النيش والأثاث الفخم دون ذلك!

حقيقة الزواج

الاحتياج للزواج احتياج فطري غريزي في الإنسان مدفوع فيه برغبته في تلبية احتياجاته المعنوية للحب والتقدير، والاهتمام والرعاية، والمشاركة والسكن لشريك حياة يشاركه همومه وأفراحه ويواسيه، ويساعده ويطمئن إليه، وكذلك تلبية احتياجاته الجسدية الشهوية، وغريزة الأمومة والأبوة لديه؛ بحيث يكون الزواج مقدمة لبناء أسرة، وتحقيق قدر مهم من الاستقرار الاجتماعي للشاب والفتاة، ونواة لمجتمع أفراده مستقرين كل يعود لعشه الآمن الهادئ، فيجد فيه الراحة بعد تعب ومشقة العمل والكد.

وإذا كان الزواج قائم على تشارك روحين وعقلين ثم جسدين، فإن أهم ما يجعل الحياة بينهما ممكنة، بل يظللها بالسعادة والاستقرار والتفاهم، وأهم ما يبنى عليه الزواج، هو توافق الشريكين فكرياً، واشتراكهم في رؤيتهم للحياة والواقع، واشتراكهم في الهدف النهائي من سعيهم، وتمتعهم بقدر من الأخلاق يسمح لهم بالعيش معاً، والتعامل بالحسنى، ويمنع كل طرف من ظلم الآخر أو إلحاق الأذى به.

فكيف تحول الزواج الذي شرعه الله ليكون وسيلة لالتقاء روحين ونفسين قبل اجتماع الأجساد يسكن كل منهما للآخر ويكون له عونا ، كيف تحول إلى هذا المشروع المكلف ماديًا جدا والفاشل في أغلب الأحوال؟ ونسب الطلاق في بلادنا تشهد!

هذا التعامل المادي مع الزواج أخرج القيم من المعادلة، فكان تقييم العريس أو العروسة بما يستطيع أن يدفعه أكثر، وأصبحت والدة العريس تتعامل مع العروسة القادمة لا كزوجة ابن أو ابنة لها، بل كدفتر شيكات ربما عليها استنزاف ما تسطيعه منها، وإذا لم تقدم ما يكفي تبدأ بـ”معايرتها”، كما يشكو أهل البلدة، على الرغم من أن العروسة في الحقيقة ليس مطلوبا منها أن تقدم شيئاً لحماتها إطلاقاً إلا أن تتكرم بالموافقة على الزواج من ابنها!! ثم لها البر والمعاملة الطيبة.

معدلات الطلاق جرس إنذار

معدلات الطلاق التي نشهدها حاليا مرعبة، وتشير لخلل كبير في رؤيتنا للزواج، وتعاملنا معه، ومدى استعداد شبابنا معنوياً وأخلاقياً وفكرياً قبل مادياً لتحمل مسئولية شريك آخر، وأولاد، يحتاجون ليس فقط لتأمين مستقبلهم بالشقة التميلك، لكن أهم من ذلك لتربية سليمة.

بالتأكيد إذا كان أكثر من 50% من الزيجات تنتهي بالطلاق في بعض المناطق[1]، وإذا كان لدينا حالة طلاق كل 6 دقائق في مناطق أخرى من عالمنا الذي تسوده أفكار المادية، فنحن في خطر!

وإذا لم ننتبه لمصنع إنتاج الأفراد فسوف نعاني كثيراً، سوف نعاني كثيراً إذا استمرت النظرة المادية للزواج، واستمر التقليل من أهمية عوامل التوافق الفكري والأخلاق والقيم، واستمر توريث تلك المعايير للأجيال القادمة إذا حالفنا الحظ بوجودها!

وإذا استمر انحراف المجتمع عن دوره في مساعدة أفراده لتلبية حاجتهم للزواج، فإن كثيراً من الأخبار الصادمة والمؤلمة في انتظارنا!

أهالي تلك البلدة الذين يصرخون طلباً لتدخل منظمات حقوق الإنسان لا يحتاجون في الحقيقة لذلك، لكن يحتاجون لإعادة الأمور إلى نصابها، والعودة لقانون العقل والمنطق السليم، والحل في أيديهم، ليس في أيدي “بتوع حقوق الإنسان”!

 

[1] أعلى 10 دول في نسبة الطلاق

اقرأ أيضاً:

الزواج مرو أخرى: أريد حلاً

متزوج وأفتخر

لماذا نتزوج ؟

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

داليا السيد

طبيبة بشرية

كاتبة حرة

باحثة في مجال التنمية العقلية والاستغراب بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

حاصلة على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية