المعاناة والألم … هل من سبيل للخلاص من المعاناة ؟ ولماذا نعاني من الأساس ؟
من منا لم يشعر بلحظات المعاناة أو يتألم فى هذه الحياة؟ فمنا من فقد محبوبا أو صديقا أو قدوة، ومنا من يتألم لمعاناة الآخرين الذين يموتون جوعا ويذبحون ويقتلون بغير حق، ومنا من يعانى بسبب مرض مزمن يصعب الشفاء منه، ومنا من يعانى من قهر وظلم فى بلده وليس بيده حيلة لدفع هذا الظلم، ومنا من يتألم بسبب صراعات داخلية بين المبدأ والمصلحة ومنا من يتألم لسنين قضاها فيما لا يسمن ولا يغنى من جوع، ومنا من يتألم لجهل لديه أو لدى غيره لا يستطيع رفعه ومنا من يتألم بسبب محاولاته المستمرة دون الوصول، ومنا من يتألم حتى لعدم قدرته على البوح بما يؤلمه!
ومنا من يعانى لعدم فهم لماذا نعانى من الأساس وغير ذلك الكثير من أشكال المعاناة… فهل من خلاص من هذه المعاناة؟
المعاناة داخل المعتقلات النازية
يحدثنا فيكتور فرانكل الطبيب النفسى فى كتابه “الإنسان يبحث عن معنى” عن تجربة فى غاية القسوة والإذلال وهى تجربة عاشها بنفسه داخل المعتقلات النازية فيقول أن الإنسان فى هذه المعتقلات نزع منه كل ما يجعله حقا إنسانًا، فقد قتل الجنود حياءه واعتدوا على كبريائه بأشكال لا يمكننا حتى ذكرها. فلا ملابس ولا أسماء ولا طعام آدمى ولا راحة ولا شكوى، بل إن المعتقلين فى هذه السجون كانوا إما أرقامًا تحيا لتخدم وتضرب وتصفع بسبب أو بغير سبب إرضاء لسادية الجنود أو أنهم مجرد أشياء لا تستحق إلا الحرق فى محارق الغاز لأنها غير صالحة للاستخدام،
فيقول الكاتب أنه فى ظل هذه الظروف القاسية تحول الإنسان من كائن له هوية وخصوصية إلى مجرد حيوان متبلد المشاعر لا مبالٍ بما يحدث من حوله لاعتياده على الإهانة والتعذيب ومشاهدة الدماء والجثث فى كل مكان، فمنهم من وجد فى الانتحار النجاة ومنهم من فقد إنسانيته لدرجة أنه أصبح من آكلى لحوم البشر!
ولكنه بالرغم من كل هذه المعاناة والألم يحدثنا عن رجال حافظوا على إنسانيتهم ولم تكن تلك الظروف القاسية سببا فى تدميرهم أو تحويلهم لحيوانات أنانية لا تسعى إلا للنجاة بنفسها، بل إنهم كانوا مصدرا للأمل داخل المعتقلات، فمنهم من كان يتقاسم طعامه مع من لم يتمكن من الحصول على نصيبه ومنهم من كان يواسى غيره ويبشره بفرج قريب ومنهم من كان يحاول مداواة المرضى! فمن أين استمدوا هذه القوة يا ترى بالرغم من أنهم يمرون بنفس التجربة القاسية؟ وكيف تكون الظروف واحدة ورد الفعل مختلف؟
قوة المعنى
إنه “المعنى” الذى يحيا من أجله هؤلاء الأشخاص والإرادة الداخلية التى شكلت طاقة الأمل والثبات فى مثل هذه الظروف، وهذا ما جعل الطبيب يدرك ما يعرف الآن فى علم النفس باسم العلاج المعرفى أو العلاج “بالمعنى” والذى يعد كتابه هذا هو اللبنة الأولى فى تأسيسه، فقد كان الطبيب عندما يتحدث مع بعض المعتقلين يسألهم “لماذا لم تنتحروا؟” فظروف كهذه كفيلة بتدمير أى طاقة متبقية بداخل الإنسان، فكانت الإجابات تأتى فى شكل “أهداف غائية” أى أهداف ذات معنى تمدهم بالأمل وتعطى حتى للمعاناة نفسها معنى، فيستمروا فى المقاومة من أجل تحقيق هذه الأهداف…
ويحضرنى فى هذا السياق إحدى مشاهد الفيلم الرائع “”Shawshank redemption، فعندما تم الإفراج عن أحد المساجين بعد إقامة دامت لأكثر من ثلاثين عاما تقريبا، وجد السجين نفسه فى حالة من الارتباك والقلق الشديد فهو لا يعرف ماذا يمكن أن يفعل الآن بهذه الحرية، فقد اعتاد السجن والمساجين ولم يكن يعرف المعنى الذى سيحاول الاستمرار من أجله، فحاول الاختلاط مجددًا بالناس وحاول إيجاد عمل لينشغل به ولكنه لم يجد المعنى والغاية التى سيستمر من أجلها لأنه كان فاقدا لها منذ البداية فشنق نفسه!
حالة الـ ” ماذا بعد؟ “
إذا كان المعنى بهذه القوة والتأثير على مصير الإنسان فكيف نجده وهل هناك معنى أو هدف غائى لكل إنسان أم أن كل إنسان يمكنه صنع المعنى الخاص به؟
فى الحقيقة إن محاولة صنع معنى خاص بكل مخلوق على حدى بمعزل عن الخالق عن طريق الانغماس فى المغامرة والاستكشاف أو إفناء الحياة من أجل مساعدة الآخرين أو مقاومة الأمراض والظلم والشر أو أيًّا ما كانت الأهداف فلا مفر من أن كل هذه الأفعال وما يترتب عليها مصيره الفناء!
ولا أظن أن هناك من لم يسأل فى لحظة من الصفاء والتأمل مؤمنا كان عن مصير كل هذه الأفعال، حالة من الـ “ماذا بعد”، حالة من الـ “لماذا أستمر إذا لم يكن هناك ما أستمر من أجله وإن وجد فهو الآخر مصيره الفناء؟”، نعمل ونجتهد لنحصل على المال، ثم ماذا، نمرح ونلهو ونكتشف ونغامر ونجد من يؤنس وحدتنا ويساعدنا على تحمل صعوبات الحياة وننجب أطفالا، وماذا بعد، ننشأهم نشأة سوية لنفخر بهم ونراهم فى أعلى المراتب وبخير حال، وماذا بعد؟
محاولة إيجاد المعنى
سنجد أنفسنا نحاول ونحاول دون جدوى وسنغرق فى سلسلة غير متناهية من الـ “ماذا بعد” الى أن نصل لفكرة لا مفر منها مفادها “أن أفعالنا وأزواجنا وأبناءنا واكتشافاتنا ومغامراتنا وأصدقاءنا ورياضتنا وجهدنا المبذول فى العمل والتربية وحتى ما سيصنعه أبناؤنا بما تعلموه منا وكل ما هو مادى مصيره الفناء وأننا مهما حاولنا وضع مغزى بمعزل عن خالقنا سيكون مجرد مخدر لا أكثر ولا أقل، وبذلك تصبح كل هذه المنظومة عملية بيولوجية حيوانية بحته لحفظ النوع!
وعند إدراك هذه الحقيقة سنجد أنفسنا بين بعض الخيارات المصيرية، فإما أن ننتحر لعدم جدوى كل هذه الأفعال و المعاناة والصعوبات كما فعل بعض المشاهير أو نتأقلم كحيوانات ونستمتع بكل لحظة بالطريقة التى نراها مناسبة أو نقنع أنفسنا بأنه لا معنى لهذه الحياة ولكن بالأخلاق والتعاون وحب الآخرين سنشعر بمعنى الإنسانية والتى لا مفر من زوالها هى الأخرى أو نعيد التفكير فى المنظومة ونفهم الغرض الذى نظمت من أجله، أى نعود إلى خالقنا ليهدينا إلى الغاية من كل هذا لأننا فى الحقيقة جزء من منظومة لها صانعها الحكيم.
الاحتياج نعمة
المعاناة جزء أساسى من وجودنا ولا يمكننا فى الحقيقة التخلص منها تماما ما دمنا فى هذه المنظومة الإلهية العادلة ولكن يمكننا تقليلها قدر الإمكان لأن الإنسان مخلوق ناقص ومحتاج، ولكنه مع ذلك ساعٍ للكمال ومتاح له الوصول قدر ما يحاول ويقاوم ويجتهد، واذا أردنا التخلص من الاحتياج تماما لأنه السبب فى تألمنا ومعاناتنا، فإننا بذلك نرفض أيضا كل لذة وسعادة وتطور وكمال متاح لنا الوصول إليه، فالاحتياج كما هو سبب للألم فهو أيضا سبب للفرح والسعادة، لأننا إذا لم نحتاج فلن نسعى لتلبية الاحتياج ماديًّا كان أو معنويًّا ولن نشعر بلذة الحصول على ما كنا نحتاج.
خلاصة القول
ولعلنا بحاجة دائما لتذكر أن الله قد خلقنا وأعطانا من النعم ما لا يمكننا إحصاءه دون أن نفعل أى شىء لنستحق هذه الرحمة، فإذا كانت المعاناة بالنسبة لنا هى فقد بعض من هذه النعم، ألا يجب أن نحمده على بقاء النعم التى لا نستحق أيضا بقاءها بدلا من السخط على ما أخذه منا؟
قد يتساءل البعض ولماذا يأخذ الله ما دام رحيمًا وكاملًا؟ هل من الرحمة والعدل أن يعطينا ليأخذ ويجعلنا نعانى؟ بالطبع لا فهو لا يعطينا ليجعلنا نتمسك ثم يأخذ منا لنعانى فهذا ظلم، والظلم يصدر عن ناقص لا عن كامل وبما أنه سبحانه أعطانا ما لا يمكننا إحصاءه دون أن نستحق من الأساس فإنه أيضا عندما يأخذ لا يأخذ بغرض رؤيتنا نعانى ونتألم حاشاه بل إنه يأخذ ليرحم أو يأخذ ليمنع عنا الأذى أو ليختبرنا فإذا صبرنا يعطينا أضعافا مضاعفة…
وعليه فالألم والمعاناة ليسوا إلا وسائل لا يمكن الاستغناء عنها لارتقاء الإنسان وسعادته، فألم تحصيل العلم أو مرارة الدواء أو تعب العضلات أثناء ممارسة الرياضة أو ألم الولادة أو ألم الجهل وألم عدم الإنجاز وغير ذلك من الآلام، كل هذه وسائل لتطويرنا والارتقاء بنا، أما فيما يخص فقدان الأشخاص والأشياء فكم من نصيحة وتحذير من أن التعلق بالفانى مصدر للشقاء؟
فالغاية هى التعلق بما يحمله الأشخاص من معانى لا تفنى بفنائهم والغاية أيضا هى استخدام الأشياء فيما خلقت من أجله لا التعلق بها والعائد من كل هذه الأفعال والآلام “طمأنينة وسعادة لا ألم بعدهما” فطوبى لمن لم تغب عنهم الوجهة ووجدوا المعنى والحكمة فى كل محنة.
اقرأ أيضًا :
عندما نتآكل من الداخل.. ماذا يفعل بنا الاكتئاب ؟