مقالاتفن وأدب - مقالات

الفنان المشتبك… كيف يدافع الفن عن قضية؟

“قصائدنا بلا لون، بلا طعم، بلا صوت
إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت
وإن لم يفهم البسطاء معانيها
فأولى لنا أن نذريها… ونخلد نحن للصمت”
هكذا قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش في إحدى قصائده؛ ليجعلنا نتساءل ما الفائدة من الشعر أو الفن أو الدراما أو الأدب إن كانوا لا يلامسون حياتنا!
ما فائدة الفن إن لم يساعد في وصف ما يعانيه الناس من ظلم أو ألم؟! وما الذي يثبت صدق هذا الفن إن لم يساعد في إيجاد المأوى أو الملجأ للبسطاء، وينير مصباحاً أو قنديلاً في كل بيت مظلم!
هكذا يجعلنا نستنتج ما يجب على الفنانين الحقيقيين أن يفعلوه، وكيف أنه من واجبهم أن يكتبوا الواقع بأقلامهم، ويحكون صدق المشهد في قصصهم، ويرسمون الحقيقة في لوحاتهم.

ولكن في البداية علينا أن نحدد أولاً ما هو الفن، إن الفن لهو القدرة على استنطاق الذات الإنسانية بحيث يستطيع الشخص من خلال هذا الاستنطاق أن يعبر عن نفسه ومحيطه، سواءً كان ذلك التعبير في صورة قصيدة أو قصة أو مشهد تمثيلي أو لوحة مرسومة، ومن الممكن أن يستخدم الإنسان الفن ليصف الأحاسيس والصراعات التي تتدافع بداخله، وها نحن تعرفنا إلى الفن لننتقل إلى نقطة أهم وهي: كيف يمكن للفن أن يُوظف للدفاع عن قضية ما؟!

إن بعض القضايا البشرية تحمل من التعقيد والتفصيل ما يجعل معظم الناس لا ينتبهون لها أو يأبهون بها، بحيث لو أن أحدهم سمع أن هناك ظلماً واستبداداً يقع على شعب ما، فلن يتثنى لكل الناس فهم المعنى الواقعي للظلم وكيف يقع بالظبط على هذا الشعب وما هي آثاره السلبية عليهم، ولكن إذا عُبر عن ذلك الظلم من خلال قصة أو لوحة أو مشهد تمثيلي، فإن ذلك يساعد في أن يصل معنى الظلم الواقع إلى قطاع أكبر من الناس، ربما لأن من أهم مميزات الفن هي البساطة حيث إنه يجعل المعنى المراد توصيله أكثر بساطة، كما يجعله أكثر قدرة على ملامسة الروح والتأثير فيها.

ولكي نفهم أكثر كيف يمكن أن يُوظف الفن للدفاع عن قضية ما، فإننا سنتتبع في هذا المقال مسيرة فنان مشتبك، استطاع أن يشتبك بفنه مع واقعه، ويدافع عن قضيته عن طريق فنه، وذلك الفنان المشتبك هو الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني الذي استطاع بكتاباته ورواياته وقصصه أن يربط القضية الفلسطينية بالشتات ويربطها بالعرب ويربطها بالعالم أجمع.
فجعل ما يحدث في فلسطين لا يُوجع الفلسطينيين فقط بل يُوجع كل من يملك معياراً للعدل والإنسانية في هذا العالم.
وفما يلي تتبع لمسيرة حياته التي جعلت منه فناناً حقيقياً…

الطفولة المقاتلة:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولد غسان كنفاني في المدينة الفلسطينية عكا في عام 1936م، حيث كان الجو مضطرباً ومتصارعاً، وتوشك الأجواء على اندلاع ثورة فلسطينية نتيجة للصراع بين جنود الانتداب البريطاني والثوار الفلسطينيين والعصابات الصهيونية، وفي الثانية عشر من عمره شهد غسان مذبحة دير ياسين لتنقله من الطفولة البريئة إلى إدراك بشاعة الحرب، وتوالت المجازر التي شهدها في يافا وحيفا، ثم بعد ذلك حدثت نكبة عام 1948 ليجبر على اللجوء مع عائلته إلى المخيمات في بيروت ثم إلى دمشق، ليودع فلسطين بجسده وتبقى عالقة في عقله وساكنة في قلبه،  وليروي لنا كل ما شاهده فيها وسمعه عنها في قصصه ورواياته.

اللاجئ المتمرد:
بعد أن أصبح غسان لاجئاً أكمل دراسته وحصل على البكالوريا من الجامعة السورية، ومع أنه لم يكن يعيش في المخيمات وقتها إلا إنه عايشها، وكان يُعلم أطفال المخيمات في مدارسهم مادة الرياضيات ومادة الرسم، وكان يستمع لحكايات الصغار وآمالهم وأحلامهم وينقلها في قصصه وألف لهم كتابه “القنديل الصغير” والذي كتبه كهدية لابنة أخته الصغيرة “لميس” لكي يعلمها كيف تواجه الحياة، وكان يقول عن الصغار “أطفالنا هم مستقبلنا” فكان يرى أن تنشأة الصغار وتعريفهم بالقضية الفلسطينية لهو جزء من صناعة وبناء المستقبل، فربما كان يرى أن جيله لن يحرر فلسطين ولكنه كان يأمل في جيل آخر يعيش ليصنع فلسطين حرة.
وربما كان جهده في تعليم الصغار عن فلسطين نوعاً من التمرد على فكرة اللجوء؛ فأن تعيش كلاجئ ليس بالأمر السهل؛ فربما يجعلك ذلك تفقد كل أوصالك وأفكارك عما يحدث في وطنك، لكن اللجوء جعل فكرة فلسطين تسكنه بعد أن سكنها عندما كان صغيراً.

كيف اشتبك غسان في الحرب دون أن يحمل سلاحاً؟!

بدأ غسان مشواره الفني ككاتب بمجلة الرأي، يكتب المقالات عن واقعه وواقع فلسطين، ثم انضم إلى تيار القوميين العرب وهو أهم تيار فكري كان يعمل وقتها على تحرير فلسطين وجمع العرب.

وكان يعمل بكتاباته على إشعال مشاعر شباب فلسطين ناحية العودة وضرورة بناء قوة لمواجهة العدو الصهيوني، ومزج أفكاره تلك بأسلوب أدبي مميز.

كتب غسان أول قصصه في سن التاسعة عشر وظهر أسلوبه الفني المميز الذي يجعلك تعايش الواقع وتشعر بالقضية الفلسطينية وتفهم ما يحدث في فلسطين من ظلم وعدوان.
فكتب في روايته “عائد إلى حيفا” عن النكبة والتهجير الجبري للفلسطنيين، وما شمله من شتات مادي ومعنوي جعلهم غير قادرين على استيعاب ما يحدث، ووصف شعورهم بالخسارة والفجيعة على ما تركوه خلفهم من وطن.
وكتب في مجموعته القصصية “عن الرجال والبنادق” توثيقاً واقعياً ونضالياً لقصص كفاح الشعب الفلسطيني،  ليكشف لنا في قصصه تلك أن الفلسطيني لا يحتاج فقط أن يحمل سلاحاً ليقاتل، بل عليه أولاً أن يتسلح بالوعي والإرادة ليعرف لماذا يقاتل؟ ولمن يقاتل؟ وكيف يقاتل؟
وينقلنا بروايته “أم سعد” إلى الأم الفلسطينية وكيف عانت وكيف زرعت فلسطين في قلب أبنائها ثم بعد ذلك وهبتهم للدفاع عنها واسترجاعها.
ثم ينتقل بنا في روايته “رجال في الشمس” ليحكي لنا عن فكرة اللجوء أو الهروب من الوطن لإيجاد أو تأمين مستقبل آخر في بلد آخر، ليقول في تلك الرواية جملته الأشهر “لماذا لم يدقوا جدران الخزان” فيجعل في روايته رمزية على أن من يترك قضية فلسطين ويحاول إيجاد حلول فردية فإن مصيره الموت المعنوي.
وهكذا نجد أن غسان وثق قضية وواقع فلسطين بفنه، كما تُرجمت العديد من أعماله لأكثر من عشرين لغة ليحاول بذلك أن يُوصل قضية فلسطين للعالم.

الشهيد الباقي:

في عام 1972م قُتل غسان كنفاني على يد الموساد الإسرائيلي، عن طريق عبوة ناسفة وضعت له في سيارته واستشهدت معه ابنة اخته “لميس”، فسقط جسده وبقيت فكرته، فلقد كانت كلماته كالبندقية ضد الظلم والعدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني .
فرحل غسان عن حياتنا منذ نصف قرن تقريباً، ولكن بقيت كلماته عن الوطن، وحلمه بالعودة إلى حيفا، وقناديله وقصصه التي تركها للصغار لتزرع فيهم القضية، وحكاياته التي صنعت المئات من الأمهات المشابهات لأم سعد،  وفنه المشتبك الذي ما زال يشتبك مع الواقع فيذكرنا دائماً ويحكي لنا عن “فلسطين”.

اقرأ ايضاً:

الكوميديا ودورها في الغزو الثقافي

هل حقاً الإعلام صادق في نقله للواقع؟

دور الإعلام في ترسيخ الأفكار والقيم

دعاء رجب

عضوة بمركز بالعقل نبدأ القاهرة