الحب في عصر ما بعد الحداثة، من المادية إلى اللامعنى
رفع التنويريون في القرن السابع عشر تقريبا شعارات تحرير الإنسان الأوروبي من قبضة الكنيسة، وتمكينه من مصيره أخيرا معتمدين على العلوم التجريبية التي بواستطها استطاع الإنسان كشف مجاهيل عالم الطبيعة المادية تمهيدا للسيطرة عليها واستغلالها وتوظيف مواردها لخدمة رفاهيته.
وقدموا رؤى ونظرات مادية للعالم فصلته عن عالم الغيب وأنكرت أصله الإلهي أو على الأقل حجمت وهمشت دور الدين، وأنكرت وجود أي حقيقة متجاوزة لعالم المادة بما فيها القيم الأخلاقية المطلقة الثابتة.
هذه الرؤى المادية التي استندت إلى عالم الطبيعة وقوانينه واعتمدت على الحواس والتجارب العلمية فقط في التعرف على العالم سحبت نظرتها تلك للإنسان نفسه فأنكرت حقيقة روحه المجردة عن المادة واعترفت له بالجسد فقط فاختزلت سعادته في لذة الجسد ومتعته.
المعرفة الحسية المرتبطة بالمحسوس الُمتغير متغيرة كذلك فالشخص الجالس أمامك قد يقوم بعد قليل، والشخص الساكن عن الحركة ربما يتحرك وبالتالي تتغير صورته التي تلتقطها عيناك.
وحين يلامس الهواء وجهك ووجه صديقك ربما تختلفان في تحديد مدى برودته، وأسعار صرف العملات في السوق تتغير باستمرار، والنظرية الفيريائية ربما تدحضها أخرى.. تلك المعرفة المتغيرة المستندة للمادة والطبيعة لا يمكن الاعتماد عليها لبناء منظومات قيمية ومعيارية ثابتة تحكم حياة الإنسان، ولكن الماديين قصروا المعرفة الإنسانية في المعرفة الحسية التجريبية فاعتبروا كل معرفة متغيرة غير ثابتة والحقيقة نسبية وأي حديث عن حق مطلق أو أفكار ثابتة هي رجعية و محض أوهام وخرافات!
الإيمان بمادية العالم وانفصاله عن عالم الغيب والأصل الإلهي، والإيمان بنسبية الحقيقة وإنكار أي حقيقة متجاوزة لعالم الطبيعة قاد لفلسفات ورؤى عدمية تعتقد بأن كافة القيم والأخلاق ليس لها أي أساس يمكن الرجوع إليه، وترتبط بالتشاؤم والشك في حقيقة الوجود، وإنكار الغاية والمطلق، ما أنتج إنسانا فاقدا للمعنى يجهل حقيقة وجوده تجتمع عنده النقائض والأضداد وتتساوى لديه غير المتساويات، ويغيب لديه كل يقين بل تسيطر النسبية التامة ويصير الإنسان هو مقياس كل شيء والصواب والخطأ وجهات نظر والمركزية في العالم للإنسان تدور معه المعايير حيث دار، تلك الرؤى أعلت من الفردية والذات الضيقة والمصلحة الشخصية في مقابل صالح الاجتماع الإنساني بشكل عام.
إنسان اللامعنى
إنسان اللامعنى تسلمته الآلة الرأسمالية بعد أن عرفت سعادته في اللذة والمتعة المادية اللحظية وجعلته عبدا لها يستهلك منتجاتها طمعا في الوصول للجنة التي تعد بها والتي كلما اعتقد أنه قريب منها اكتشف أنه في حاجة لآخر إصدار من تليفوناتها المحمولة قبل أن يصل إليها ثم إذا حاز ذلك الإصدار وقف الإصدار الذي يليه حائلا بينه وبين تلك الجنة الموعودة!
هو إنسان يحركه الاستهلاك من أجل الاستهلاك في عصر كل شيء قابل للتطوير والتغيير، عصر المعلومة السريعة والوجبات السريعة وكذلك العلاقات السريعة! عصر”احنا هنعيش كام مرة يعني”.
“عصر قطع الغيار واستبدال المنتج قبل نهاية فترة الضمان، عصر الفرصة القادمة التي تجعل ما في يدك قابلا للتخلي عنه فلا ترتبط به بشدة.”[1]
حالة نزع المعنى والقيمة والغاية عن حياة الإنسان وفصله عن المصدر الإلهي جعلته قلق متشائم مكتئب بلا وِجهة أو اتجاه يسير فيه، بل تتقاذفه التيارات والأهواء، يبحث عن الأمان والاطمئنان والاستقرار النفسي دوما فيجوب الأفق باحثا عن تعريف لنفسه وهويته في مطعم جديد ومسرح جديد وفرقة موسيقية جديدة وفيلم جديد و”شلة ” جديدة وكتاب جديد ينقض النظرية التي قدمها الكتاب الذي قد فرغ من قراءته توا وقد آمن بما يحويه!
أو في علاقة عاطفية يفرغ فيها نفسه تماما ويستمد منها القيمة والمعنى بل والغاية، ويعتبرها الملاذ والأصل الثابت في عالم التغير المستمر.
لكن في الواقع تلك العلاقات لا تستوعب الإنسان فهي مبنية على فكرة المتعة اللحظية السريعة واللذة المادية – شأنها شأن حياة الإنسان كلها في المجتمع الاستهلاكي- التي تعبر عنها دكتورة هبة رءؤف فتقول:” حين اختفى الأبد بات الإنسان يبحث عن أبدية اللذة في لحظية المتعة وآنيتها بلا توابع ولا مسؤوليات”[2] وتلك اللذة الوقتية المرتبطة بالجسد لا تحقق المعنى ولا تكفل الاستمرارية فالجسد يمل ويبحث عن بديل آخر ثم يمله أيضا!
كما أن كل محاولات الخداع التي يخدع بها الإنسان نفسه ليوهمها بكمال الآخر كمال مطلق يجعله بديلًا عن الإله باعتباره مصدر المعنى والغاية و الطمأنينة والأمان الدائم والسكينة الأبدية والمركزية والثبات، كل المحاولات التي يحاول فيها الإنسان النزول بالمقدس من السماء إلى الأرض-بعد أن ضل طريق السماء- كل تلك المحاولات سرعان ما يتبين مدى ضلالها ومدى ضعف الإنسان ووهنه ومحدوديته بحيث لا يمكنه أن يكون المطلق الذي يبحث عنه آخر!
ذلك النمط من العلاقات أنتجه عصر فصل الإنسان عن غاية وجوده وجعله مركز العالم فسقط في التيه واللامعنى وأصبح فريسة الأمراض النفسية.
عود إلى الغائية
بينما النظرة الواقعية العقلانية للعالم تعترف بأصالة الحقيقة المجردة عن المادة، وبصدور العالم عن إله حكيم عادل قدير، وبأصالة القيم المطلقة وأساسها العدل، وتعترف للإنسان بروحه المجردة غير المادية التواقة للكمال المعنوي والمُحبة للمعرفة والخلق القويم، وتجعل سعادة الإنسان الحقيقية وغاية وجوده في معرفة الحق وعمل الخير، وفي القرب من الإله وهو طريق لا نهاية له لأنه سعي نحو الكمال المطلق!
كذلك تجعل المركزية للإله بما يُمثله من كمال مطلق وتنظر للإنسان باعتباره سفيرا له -بما لا يلغي إرادته أو يستهين بعقله- فتكون سلوكيات الإنسان وتصرفاته موجهة نحو غاية وهدف محدد ما يكسبها قيمة ومعنى يقي الإنسان من السقوط في أفخاخ العدمية والإحساس باللاجدوى والغوص في بحار الرمال المتحركة التي قادتنا المادية إليها.
تلك القاعدة والأرض الصلبة والأساس المتين يصلح بما له من قيمة ذاتية أن يكون منطلقا لكل اختيارات الإنسان بما فيها علاقاته، فتستمد كذلك العلاقة قيمتها من مدى ما تساعد به الإنسان على السعي في سبيل سعادته الحقيقية وسبيل وصوله لغاية وجوده الحقيقية، فتتفجر منها المعاني السامية وتزهر بها روح الإنسان وتسعد بها نفسه كونها متسقة ومنسجمة مع طريقه الإلهي.
[1] دكتورة هبة رءؤف عزت في تقديمها لكتاب الحب السائل لزيجمونت باومان الشبكة العربية للأبحاث والنشر- الطبعة الأولى 2016 ص19
[2] المصدر نفسه ص18
اقرأ أيضاً:
بطل المقاومة الشعبية ضد الإحتلال الفرنسي
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.