المنتج المعجزة لنتيجة مبهرة! كيف يتم خداعك بالتسويق
مفهوم السوق الحر
ظهر مفهوم السوق_الحر كالذراع الاقتصادي للجسد الرأسمالي بعد أن تبنى الفكر الليبرالي. هذا الفكر الليبرالي انبثق عنه الحريات الأربع: الشخصية والفكرية والاقتصادية والسياسية. وكان الخروج من حيز الفكرة لحيز التطبيق للحرية الاقتصادية من خلال آلية السوق الحر. فتعتمد الفكرة كلاسيكيّا على رفع الحظر عن النشاط الاقتصادي والتجاري في المجتمع. فيجوز الامتلاك بقصد الاستهلاك والإنتاج معا. ولكل فرد مطلق الحرية في إنتاج أي أسلوب أو سلوك أي طريق لزيادة ثروته وممتلكاته. ورأى الناس في هذه القواعد تحقيقا لأحلامهم وفتح الباب على مصراعيه للتنافس في التجارة وكسب لقمة العيش، كما رأوا فيها الحرية والسعادة التي تشتاق أنفسهم لها. فلم تجد في مراحلها الأولى والوسيطة من الاعتراض ما يكفي لتقويضها أو دحرها بل انتشرت على مجال واسع وفرضت نفسها في واقع المال والأعمال بل تطورت كفكرة وتبلورت أكثر وتركبت لتخلق اللب الأيديولوجي لواقعنا الاقتصادي والاجتماعي اليوم.
الاحتياج والطلب
لقد ارتكزت فكرة السوق الحر في أساسها على عنصرين ديناميكيين أولهما هو الاحتياج، فالإنسان كائن اجتماعي يجتمع مع غيره ليتكامل ويشبع النقص والاحتياج لديه ويكمل ويشبع نقص غيره. وبالتالي ظهرت المنفعة المتبادلة (Mutual Benefit)، ولا تنفرد الرأسمالية بهذا التشخيص والوصف بل هو متعارف ومستدل عليه في مختلف فلسفات الأمم والشعوب منذ قديم الأزل (راجع فلسفات الإغريق والشرق الأقصى وفلسفة المسلمين في التنظير الاجتماعي والاقتصادي). وبناء على هذه الحاجات يظهر أول عوامل تكوّن السوق وهو الطلب. فالحاجة تخلق الطلب.
الإنتاج والعرض
أما العنصر الثاني فهو الإنتاج، فلكل حاجة مادية أو معنوية لدى الإنسان منتج أو وجود معين يشبعها. والحاجات المادية تشبعها المنتجات المادية والمثل بالمثل في الحاجات المعنوية. والإنسان بقدراته العقلية والعضلية يستطيع أن ينتج، ومع تباين الاحتياجات وتباين الإنتاج كما ونوعا بين أفراد المجتمع ظهر العامل الثاني الذي به يتكامل مفهوم السوق ألا وهو العرض. فالإنتاج يخلق العرض.
الفقاعة التجارية أو ديناميكية السوق
تجتمع هذه العناصر في كيان السوق لتخلق اتزانا ديناميكيا أشبه بمسائل علم الميكانيكا وإن اختلفت في تفاصيلها. فالعرض والطلب قوتان تخلقان حالات مختلفة في السوق توضح وضع كل منتج وقيمته من حيث العرض من خلال حجم الاحتياج له والطلب عليه. فالمنتج الضروري في المجتمع يطلَب بكميات عالية، وبالتالي ترتفع قيمة المنتج. هذا يزيد من انجذاب المنتجين نحو هذا المنتج. فالرغبة العامة في السوق بتحقيق الربح تدفع المنتجين للاهتمام بهذه السلعة وزيادة إنتاجها. وكلما زاد الإنتاج زاد العرض، وبالتالي تقل قيمة السلعة، لأنها مع وفرتها، يحاول المنتِج أن يجذب المحتاج لسلعته فيخفض الثمن ليحقق أرباحا أكثر. وأما إذا زاد العرض عن الطلب فيحدث تشبع للسوق وربما يحدث إغراق له بالمنتج مما يؤدى لانهيار قيمته تماما. هذه الحالة الجديدة تؤدي لنقص الاهتمام بهذه السلعة من حيث الإنتاج فيقل العرض مرة أخرى وهكذا. حتى تصل السلعة لحالة اتزان ديناميكي بين العرض والطلب قابلة للتغير وفق الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية.
وتكفل قوانين الاقتصاد الطبيعية (الاتزان الديناميكي الذي وصفناه) من حيث العرض والطلب والمنافسة الحرة استقرار الأسواق والأسعار وبقاء المنتج الأكثر منفعة للمجتمع. ويشبَّه السوق الحر بفقاعات الصابون التي تظل تنتفخ حتى إذا ماوصل لحدٍّ حرج انهارت على نفسها وقل حجمها وهكذا. وكان الضمان لتحقيق هذا النموذج للسعادة والتناغم الاجتماعي أو لنجاح هذا النموذج اقتصاديّا أمران: القوة الشرائية: فالمستهلك لديه محدودية في الموارد ومن ثم فسيحاول أن يصرف هذه القوة الشرائية على ما يشبع حاجاته فقط وفق أولوياتها، وبالتالي تسقط ذاتيا الصناعات التي لا تمس واقع احتياجات المستهلك. الأمر الثاني هو تحقيق الأرباح: فخوف التاجر من كساد تجارته والخسارة ورغبته في تحقيق أقصى أرباح ممكنة سيدفعه ولو مرغما على التقيد بديناميكية السوق التي تملى عليه سعر السلعة أو هامش سعر السلعة دون تدخل منه. وبذلك تكتمل تجانسية السوق الحر وتناغمها كاللحن المتسق الذي تعزفه الفرقة الموسيقية المحترفة.
التسويق: المنطلقات
يعتبر فن التسويق من الضروريات اللازمة التي تصاحب النشاط التجاري وتثريه. ولا يعد فن التسويق حديثا أو غريبا، بل هو موجود منذ أن عرف الإنسان التجارة. ففي السوق ينادي بائع التفاح على بضاعته فيقول “سكر يا تفاح”. هذه المقولة تختصر كلاما كثيرا في وصف التسويق. فالتسويق هو إخبار او إعلام للمستهلك بالمنتجات المتاحة وقيمتها وكيفية الحصول عليها. هكذا كان قديما على الأقل. فكان بسيطا تكميليا لا يسعى فقط إلا للإعلام بالعرض. واعتمدوا في توجيه الطلب على جودة المنتج. فكانت القاعدة التسويقية قديما أن السلعة الجيدة تبيع نفسها.
أما حديثا فلقد تطور وتعمق دور التسويق ليلعب دورا أساسيا ليس فقط في الإعلام بالعرض ولكن في توجيه الطلب. فبدأ الباحثون بدراسة طباع المستهلك وكيفية تأثر قراره الشرائي وكيفية تقديره لقيمة السلع. ومع تقدم هذه الأبحاث اكتسب التسويق القدرة على تغيير معادلات السوق تغييرا جذريا. لربما تلاعب هذا المكون بديناميكية السوق لدرجة لم تكن في حسبان أول من أسس لنظرية السوق الحر.
التسويق: الوسائل
يستخدم التسويق في نظرية السوق الحر حديثا وسائل عدة وأدوات شتى لتوجيه طلب المستهلك نحو منتج معين أو بعيدا عن منتج معين. هذه الوسائل في ذاتها لا هي خير ولا هي شر بل هي قدرة على الإخبار والتوجيه في يد المنتج والبائع. وتتراوح تلك الأدوات بين الإعلانات المرئية والمسموعة والمقروءة على كافة قنوات الإعلان، إلى العروض والتخفيضات، إلى الدراسات والاستبيانات واستخدام صانعي الرأي في المجتمع والكثير من الوسائل الأخرى المتعددة دائمة التطور والتجدد في عصر الوتيرة السريعة والتكنولوجيا الذي نعيش فيه.
وأعطت هذه الوسائل المتطورة للمنتجين والبائعين في السوق القدرة على توجيه بل التحكم في الطلب والمستهلك لدرجة قد تنعش صناعة أو منتجا كان محكوما عليه وفق ديناميكية السوق بالانهيار، أو تدمر منتجا وهو يمر بفترته الذهبية في السوق. قديما كانت تلك التحولات في مصير المنتجات لا تحدث بالتصميم أو التدخل البشري المتعمد بل بالظروف التي تفرضها الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية والجغرافية والنفسية للمجتمعات. فحدوث عاصفة برد ينعش سوق الصوف، وهبوب موجة حر شديدة يحيي المقاهي والحمامات والشواطئ، بينما ظهور وباء أو مرض ينعش سوق الطب والأدوية وهكذا. ولكن الإنسان مع ملاحظة تلك المتغيرات (كحاله مع كل الأنظمة الديناميكية الأخرى) أدرك تأثيرها في السوق وعكف على أن يتعلم كيف يصنع تلك الحالات ويستثمرها لصالحه.
ليس هذا فقط ما تقتصر عليه قدرات التسويق، فبدراسة علم النفس وتطوره في العصور الحديثة درس الإنسان الطرق التي يمكن بها أن يؤثر في الإنسان ليقتنع أو يجد في نفسه الرغبة لاتخاذ قرار لم يكن ليتخذه إلا بتأثير هذا التلاعب أو التوجيه المقصود. فتصوير الحياة الرغدة بطرق معينة للفقراء أو الطبقات المحرومة قد تجعلهم ينفقون القليل الذي يمتلكونه على مالا يحتاجونه من الأصل أو ما لا يشكل أولوية ضرورية لهم، فقط لإشباع رغبة الظهور بمظهر معين اجتماعيا. أو تدمير صورة صناعة معينة بالافتراء أو المبالغة في صالح صناعة أخرى تقدم نفس المنتج ولكن بتقنيات مختلفة (تشويه صورة بائع اللبن المتجول واتهامه بنشر الأمراض والبكتيريا في صالح قيام مصانع الألبان العملاقة التي كان يستحيل قيامها والعرض الذي يقدمه بائع اللبن يغطي طلب السوق دون الحاجة لمصانع جديدة عملاقة).
التسويق: الغايات النظرية
إننا لا نسطيع الاستغناء عن آلة كالتسويق في نشاطاتنا الاقتصادية. هذا واقع أكيد. فالهدف النظري منها هو هدف واضح ونبيل غير مدنّس ولا خبيث متسافل. فمن الضروري إعلام المستهلك بالمنتجات المتوفرة، وإعطاء الحق للصناعات التي تطور نفسها بالبحث العلمي والتحديث لتظهر مدى جودة المنتج وتفوقها على منافسيها، ومنع الاحتكار وضمان مصلحة السوق واستقرار الأسعار من خلال توفير فرص التنافس الشريف والتسويق العادل للمتنافسين، وتحقيق الأهداف الوطنية بدعم المنتج الوطني في مقابل المستورد لضمان تطور الصناعة المحلية والاستقلال الاقتصادي للوطن. هذه فقط بعض المميزات الأساسية التي يمكن تحقيقها من الاستخدام الأخلاقي والعادل لآلة مثل التسويق.
التسويق: صناعة الطلب والاحتياج الزائف
لكنّ الجانب الأسود للتسويق يكمن في استخدام التسويق لتدمير الضروري لقيام هذا الاقتصاد القوي الوطني أو خلق الاحتياج الزائف لتبديد القوة الشرائية للمستهلك دون تحصيله لكماله الحقيقي، أو لتدمير الطلب على سلع معينة لضمان توجيه الطلب نحو سلع أخرى بديلة. هنا يستخدم التسويق كسلاح يطعن في ظهر المستهلك والمجتمع في وقت واحد. فهو ينسف سعادة الإنسان وتوازن المجتمع.
إن الأغراض الخبيثة المتحكمة بأدوات التسويق تسعى لنزع مقبض الريادة الاقتصادية واستقرار قيمة المنتجات وأسعارها وبالتالي استقرار السوق الوطني، من يد المجتمع، ووضعه في يد حفنة من المستغلين والمحتكرين للتصنيع والإنتاج لتتعاظم ثرواتهم من خلال الازدياد المضطرد وغير المعقول للأسعار، مع نسف سوق الصناعات الصغيرة واليدوية بالكامل دون الاكتراث بمصير ملايين المستضعفين والمحرومين في المجتمع.
إن هذا يتناقض مع الغاية التي من أجلها تم تأسيس السوق الحر والليبرالية والتسويق. لقد ظهرت تلك الأفكار وتطورت بوعد منشود للوصول إلى السعادة، ولكنها تحولت إلى خنجر مسموم وورم سرطاني يحرم المجتمع من هذه السعادة.
هنا موقف العقل واضح وصريح، ليس كل هذه الأفكار سيء لكن السيء فيها هو انعدام الميزان الأخلاقي والقيمي عند منظّريها ومستخدميها. ولذلك فإنه يمكننا إصلاح ما فسد لو سلطنا ضوء الأخلاق والإخلاص والمنافسة الشريفة على هذه البؤرة الفاسدة من الفكر الإنساني. هنا ستهرب أفاعي الأفكار المسمومة التي خلطت السم بالعسل ويرفع الحجاب والعائق بيننا وبين التناغم الاقتصادي الحقيقي
خلاصة عملية
وحتى تتحقق تلك الحالة الاقتصادية الفاضلة فعلى المستهلك أن يعلم أن القوة الشرائية بيده هو لا بيد غيره. فعليه أن يرتب احتياجاته وفق الأولويات التي يمليها العقل والحكمة لا هواه ورغباته أو هوى من حوله. عليه أن يتصرف بحكمة في تلك النفحة والنعمة التي رزق بها وأن يكون حريصا على كيفية استخدامها. فلا ينخدع بألاعيب السحرة وخدع الماكرين.
ثانيا على المستهلك أن يقدم القضايا الأخلاقية والمعنوية على قضايا المادة والاستهلاك فيكون مستعدا للتضحية بالجودة بالقدر المسموح الذي لا يضر معه أحد في مقابل مساندة القضايا الوطنية والحضارية المهمة التي تشكل نسيج فكره ووعيه ووجوده الحضاري. فلا يساند بماله نفس المجرمين والمستغلين الذي يظلمون الناس ويحرمونهم بالاعتداء المباشر أو الخفي عن الوصول لحقهم في السعادة والعدل. ولا يكون ماله لعبة في أيدي المستكبرين والغاصبين ممن يستخدمون القوة المادية في الهجوم على الأبرياء وسفك دمائهم. فمساعدته للمستعمرين بدعم منتجاتهم وصناعتهم بصورة يمكن الاستغناء عنها بالبحث عن بديل، هو اشتراك في الجريمة التي يقوم بها هؤلاء في حق الأبرياء والإنسانية.
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.