مقالاتأسرة وطفل - مقالات

الإنسانية تقتضي المقاومة

المقاومة

مالي أراك يائساً!

أنفاسك ثقيلة، خطواتك مترددة وكأنك تتودد للعالم أن يتركك وشأنك، ما عدت أرى لهفتك على الأيام وما عدت أسمع نبرة للحياة فى صوتك.

لا يا ولدي، ليس هذا ما عهدتك عليه، ولا ما أنبتُّه فيك.

صمتك ذاك يقتلني، سلبيتك حبل ملتف على رقبتي يضيق كلما توقعت منك فعلاً وحركة ضد من يعتدون على بلادنا وأجدك ساكناً ذابلاً.

ربما هناك كثيرٌ من الضحايا التي تملأ شوارعنا كل صباح ومساء ولكن هناك كذلك بذور الخير فينا التي تحتاج للسقاية والعناية، ولعل ذاك الواقع هو فرصة ذهبية لنضع تأثيراً طفيفاً ينقذنا من ضيق نفوسنا ويرقى بها إلى مقامات عليا كان من الصعب الوصول إليها في واقع أفضل.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لم أعهدك هكذا، ولم أربك على هذا!

لا أنسى يوم جئتني باكياً وأنت صغير لرؤيتك أحد جنود صهيون وهو يضرب واحداً منا وقد وقع أرضاً وارتطمت رأسه بالأرض منزفةً دماً، بكاؤك لم يكن لهول الموقف عليك وأنت صغير بقدر شعورك بالعجز لأنك لم تستطع مساعدته، ولا أنسى يوم وجدت عراكاً بين أحد المقاومين وبين ثلاث من عساكر الغاصبين! فأفلتَّ يدك من يدي وتوجهت إليهم دون تردد لتقف صامداً رمزاً صريحاً للمقاومة، ويوم لمحت فى وجهك إشراقاً وسعادةً عندما عدت لتقول لي أنك صرخت في وجه أحدهم ثم قذفتهم بحجارة وجدتها ملاقاة على الأرض.

أتذكر يوم حدثتك هاتفياً لأجدك قد سافرت البلدة المجاورة لتشارك في مسيرة سلمية تعلو بصوت الحق أمام الباطل المتفشي في أرجاء فلسطين كلها، ومحاولاتك المتكررة لتسوية الأمور بين المتخاصمين لتوجيههم جميعاً إلى العدو الأول، وحرصك الدائم على الاكتراث بالأوضاع واستثمار أي موقف يمكنك من خلاله مناهضة العدو.

أعلم أن هذا الحال الواهن ليس حالك، وهذا الضعف لا يمكن أن يستولي عليك طويلاً، وأنها كزوبعة فنجان لن تدوم.

تلك الفطرة السليمة فيك ما ذهبت، وتلك الشجاعة والحمية للحق لم ترحل، لعلها هدنة فاصلة أو ثغرة في نفسك ما زالت تجد طريقها إليك ولكن ستعود إلى رشدك وما جبلت عليه وما زرعته فيك.

لعل كونك الآن أباً جعلك تفكر مراراً قبل الحركة وليس مثلما كنت فرداً، لعلها المسؤولية التي تمتلك شعورك تجاه أسرتك الجديدة هي السبب وراء تأخر إيجابيتك التي عهدتها فيك.

إن كان هذا هو السبب فسلاماً مني إليك على روحك التي تفهم وتعي الظروف وتغيراتها وتبعاتها، فالأسرة تنتزع الإنسان من فرديته إلى إنسانيته المكترثة بالغير والراعية لهم ولكن لا بد أن تعي شيئاً خطيراً وفاصلاً فى هذا الأمر وسبباً رئيساً فى كلماتي هذه، أن أبناءك سيكونون على ما ستكون عليه.

وأنت أهل لأن يكونوا مثلك، محبين للحق وناصرين له بإيجابيتهم وشجاعتهم واكتراثهم.

ساعيين لتحقيق العدالة ونصرة الضعيف والوقوف كشوكة في حلق الظالمين.

حاضري الذهن، لا يتم خداعهم ولا تغفيلهم.

إن كنت تكترث لهم فعلا فلا تمنعهم من رؤية كل ذلك فيك، حثهم على الفعل والحركة طالما هناك حيلة فى أيديهم.

علمهم العدو الحقيقي، والتمسك بالحق مهما تطلب الأمر.

أتذكر يوم وعدتك أنت وأخيك بمكافأة إن صبرتم عن أكل الحلوى يومين كاملين وبالفعل نجحتما فى الصبر وصنعت كعكة لأخيك لمكافأته وتعمدت التغافل عن إعطائك كعكتك فوجدتك تبكي وتعترض، ثم أوضحت لك سبب بكائك واعتراضك وهو شعورك الفطري برفض الظلم ونصرة العدل، أتُذكر؟!

ثم أخذتك من يدك الصغيرة لأريك بشائع ما يفعله الصهيون بنا من قتل وتشريد وتعذيب وما أرهبونا به وسلبونا حياتنا المستقرة الهادئة التي كنا جميعاً ننعم بها، وسألتك أهذا حق؟ أهو حقٌ أن يسلب أناس حياة أناس آخرين بهذا الشكل المفجع؟ أهو مباحٌ أن يمنعونا حقنا في أرضنا؟ أهو عدلٌ أن يمنعوا عنا حقوقنا مثلما كنت أمنع عنك حقك فى الكعكة؟

علمهم مثلما علمتك، وأفهمهم مثلما حاولت مراراً أن أنتزع الحقيقة من فطرتك البسيطة، فذاك كان سلاحي الوحيد لكي أضمن أنك ستكون بخير مهما حدث لك، فأن يخرج من صُلبك إنسان واعٍ وفاعل يُعد أقوى أسلحة مقاومة الباطل وفحم المعتدين.

إنهم يا ولدي يريدون أن نكون جبناء، حريصين على الحياة فنهابهم، ملهيين فى فتات الخبز فيمرحون فى ملاهي الباطل كما يشاؤون.

إنهم لا يريدون منا أن نفهم حتى لا يخرج منا صوت قوي يهد آمالهم ومطامعهم.

إنهم ضعفاء جداً رغم أسلحتهم وكثرتهم.

إننا أقوياء بالحق رغم بساطة أدواتنا وقلة ذخيرتنا.

إن قضيتنا ليست الأرض للأرض ذاتها ولكنها قضية ظلم صريح وواضح، وسعينا لرد الظلم وتحقيق العدل لا لمجرد تحرير الأرض ولكن إحياء وتحرير لنفوسنا.

فالحق يا ولدي لا يحتاجنا بل نحن من نحتاجه، لأننا عندما ندركه ننضج، وعندما نصدقه نمتلئ عزما وإرادة، وعندما نسعى لتحقيقه نرتقي.

أعلم أنك مذبذب بين الاستمرار في سلسلة المقاومة التي قد تودي بحياتك وبين غريزتك الأبوية التي تقودك إلى حفظها، ولكن يا ولدي عندما تشتد أصوات الباطل فلا بد لنا من وقفة قوية ضدها، وخير ما يمكن أن تقدمه لأبنائك أن تزرع فيهم إنسانيتك.

وإنسانيتك لن تكتمل إلا بالمقاومة ورفض الظلم.

فالإنسانية تقتضي المسؤولية ومقاومة الباطل والسعي نحو الحق.

اقرأ أيضاً:

ربتوني كويس ليه؟ زرع القيم وحصاد السلوك

ثنائيات مهلكة .. أفكار تؤدي إلى الهلاك!

الشهرة والمال .. عندما يسير الإنسان على الطريق الخطر!

هبة علي

محاضر بمركز بالعقل نبدأ وباحثة في علوم المنطق والفلسفة