مقالاتعلم نفس وأخلاق - مقالات

هل نضع الأخلاق جانبا؟ هل نعمل تجارب على البشر من أجل العلم

الأخلاق وقضية بيولوجية

في إحدى البرامج العلمية تم طرح قضية تخص علم البيولوجي إلا أنها تمس الأخلاق ، وهي أن إحدى السيدات التي توفى عنها زوجها منذ عدة سنوات تريد أن تنجب من هذا الزوج المتوفى حيث إنه قد حفظ حيواناته المنوية لدى بنك الحفظ التابع لمعهد بيولوجي وقد أثارت تلك القضية الكثير من المناقشات والتي كان محورها عن مدى أخلاقية هذا العمل، تلك القضية تميط اللثام عن قضية الأخلاق وهل هي منفصلة عن العلم؟

بمعنى أن العلم لا دخل له بالأخلاق فيما يقوم به من تجارب وأبحاث حيث إن العلم للعلم بغض النظر عن مدى أخلاقية هذا العمل أو عدم أخلاقيته، وأيضا ما قد يجلبه عدم وجود أخلاقيات للعلم من أن يتم عمل التجارب على الإنسان ذاته كأن يتم استنساخ بشر أو أن يتم عمل تجارب لا أخلاقية على البشر بحجة خدمة العلم أي العلم للعلم ذاته.

هذا المحور يأخذنا إلى الأخلاق وتصوراتها في نظر الفلاسفة وخاصة فلاسفة القرنين التاسع عشر والعشرين فالنظرة التي سادت القرنين هي النظر إلى قضية الأخلاق بنظرة علمية تجريبية وهي أن يتم بحث الأخلاق من منظور العلم، من منظور أن الأخلاق تخضع للتجربة والحس وأن المشاعر والسلوك تخضع للجسد وأن الانفعالات والسلوك ما هي إلا ردود أفعال للجهاز العصبي والفيسيولوجي.

ومن رواد منظري الوضع العلموي والمنظر الأول للفلسفة الوضعية التجريبية المفكر الفرنسي أوغست كونت، والمبدأ الذي تقوم عليه الأخلاق هو بحث ما هو كائن فعلا وليس ما ينبغي أن يكون وأن الأخلاق نسبية تتغير بتغير الزمان والمكان، فما هو فضيلة في زمن ما قد يصبح رذيلة في زمن آخر، وتلك المدرسة لا تعترف بالغيبيات بل تعترف بكل ما هو داخل نطاق الحس والمشاهدة وهي ترى أن تفسير الظواهر الطبيعية والإنسانية مرت بثلاث مراحل وهي:

  مراحل الظواهر الطبيعية عند كونت ومشكلة تفسيره

1-المرحلة اللاهوتية: وهي رد كل الظواهر الطبيعية والإنسانية إلى الغيبيات أي إلى الدين.
2-مرحلة التأمل والميتافيزيقية: وهي تلك المرحلة التي يتم استخدام العقل المجرد لتفسير تلك الظواهر بنظريات فلسفية.
3-المرحلة الوضعية: وهي المرحلة المعاصرة التي يتم رد تلك الظواهر إلى العلم التجريبي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وما طرحه كونت صحيحًا في مجال الماديات، لكن إخضاع السلوكيات و الأخلاق للتجريب والحس يعتبر أمرًا غير مقبول حيث إن موطن الأخلاق ليس الجسد فموطنها النفس وهي ليست مادية تخضع للتجريب، والملاحظ أن هذا المنهج لتفسير الأخلاق قد ساد أوروربا وأمريكا وهو ما أدى إلى النفعية التي ترى أن أي عمل يؤدي إلى النفع فهو خير وما لا يؤدي إلى منفعة يُرفض وهو ما يجعل الأخلاق ذاتية تنبع من نظرة الفرد لما هو نافع من منظوره الشخصي.

فإن كان هناك نفع شخصي لي من عمل معين لكنه لا ينفع الغير بل قد يضرهم فلا ضرر في ذلك طالما أنه يجُر منفعة لي وهو ما يجعل معيار الأخلاق شخصيًا وليس منفصلًا عن الذات، وهذا التصور هو الذي قاد الدول الأوروبية نحو الاستعمار وهو الذي قاد الإنجليز والأوربيين إلى قتل آلاف الهنود وجلب ملايين الأفارقة كعبيد في قارة أمريكا وذلك لخدمة المنفعة الذاتية الفردية، فهذا التصور لا ينظر إلا في أفق ضيق هو أفق الذات الفردية ومنفعتها ولا ينظر إلى صالح الإنسان كإنسان وكمجتمع كوني كبير.

شرح الأخلاق في مدرسة فرانكفورت ومشكلتها

وما سبق يقودنا إلى ما طرحه الدكتور محمد عابد الجابري في بحث له عن الأخلاق وعرضه لمدرسة فرانكفورت في شرحها لمفهوم الأخلاق. والفكرة التي تبحثها تلك المدرسة هي أن ما تم تداوله في الفلسفات التي تُرجع الأخلاق إلى الحس والجسم هي أنها لم تفرق بين العقل كعقل أداتي وبين العقل كعقل موضوعي؛ فالعقل الأداتي هو عقل محدود الأفق ينظر إليه على أنه أداة تُحصي المنفعة الذاتية للفرد أو الجماعة التي ينتمي لها الفرد بغض النظر عن معقولية الغايات أو النتائج التي تكون مقبولة لكل البشر .

ويمكن أن نعود لمثال استجلاب العبيد لأمريكا لبناء القارة الجديدة، فالنفع هو أن يتم تعمير أراضي أمريكا واستخدام العبيد لتحقيق منفعة تلك الجماعة من المهاجرين وذلك بغض النظر عن عدم أخلاقية ما يفعلونه من تقييد للحرية لهؤلاء البشر الذين تم استعبادهم وهم أحرار طالما هناك منفعة ذاتية لهؤلاء المهاجرين! وقس على ذلك إشعال الفتن والحروب في دول العالم الثالث طالما أنها تجعل تلك الدول في حاجة دائمة للغرب في السلاح وفي القروض وفي المعونات مما يجعلها دائما لقمة سائغة لتلك الدول الكبرى ومنفذ لتحقيق المنفعة القصوى لها.

المدرسة العقلية

أما العقل الموضوعي وهو الذي تم تعطيله في القرنين الماضيين فهو العقل الذي ينظر نظرة شمولية للحكم على مدى معقولية الشيء ومدى التطابق الذي في الأذهان مع ما هو في الأعيان  بمعنى مدى توافقه مع المنظور الكلي للمجتمع البشري فالشيء نحكم عليه بمعيار الخير؛ لأنه هو خير في نفسه وليس نابعا من الحكم الشخصي الذاتي عليه فهو خيرٌ لأنه خير وليس لأني أراه من منظوري الشخصي أنه خير لي بغض النظر عن نظرة المجتمع الكلي له.

فالغرب نظر للعقل على أنه أداة لجلب المنفعة له ولم ينظر إليه على أنه معيار يمكن استخدامه للحكم على موضوعية الأشياء وعلى ما هو خير وما هو شر تبعا للنظرة الكلية، فالأخلاق بصفة عامة مطلقة والخير هو خير في كل زمان وفي كل مكان والشر شر في كل الأماكن وكل الأزمان فلا نسبية نفعية للأخلاق ترد إلى الذات الفردية؛ ففلسفة الأخلاق بنظرة مبسطة هي التي تضع الأسس العليا لما ينبغي أن يكون عليه السلوك الإنساني، أي أنه كالخريطة التي ترشد الملاح إلى وجهته الصحيحة والتي بدونها يفقد الطريق ويغرق في ظلمات بحر الأوهام.

اقرأ أيضا:

 المال والإيمان.. أزمة المجتمع المعاصر .. ما هي وكيف نعالجها ؟

العلاقة بين الترتيب والسعادة – رتب دماغك تنعم بحياتك

القوى الكامنة في الإنسان .. لماذا نحن مميزون بالعقل (1)

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

محمد سليم

عضو بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالإسكندرية