مقالات

لقد كان في الغربة كثيرا وكان الوضع أليم، هل تتخيل عواقب اختياره؟

والدي في الغربة

لم نكن من الأثرياء ولم نكن من الفقراء، والدي كان من هؤلاء الذين هربوا من انعدام المستقبل في الثمانينيات ليجد رزقه في عملٍ في الغربة ، مثل أغلب أهالينا في ذلك العقد من الزمان، لم يعد أحد ينتظر جواب التعيين، ابحث عن فرصة في الخارج ليتاح لك تحقيق أحلامك. كانت وعود والدي لوالدتي تتهاوى علينا كل عام “سأعود قريبا… فقط لنغطي مصاريف المدرسة، ثم الشقة، ثم الجامعة، ثم شقق الأولاد…”، حتى بلغ والدي الستين ولن يعود في وجهة نظري حتى يبلغ سن التقاعد.

لا يصيبني الألم من بُعد والدي عني؛ فهذا ألم نسيته بعد خامس أو سادس مرة يسافر فيها بعد انتهاء إجازته السنوية، وبصراحة فإن عدم تأقلمه على الوضع في مصر لم يجعل من إجازته أمرًا مبهجًا من الأصل، أتذكر حين كنا صغارا أننا كنا ننتظر عودة والدي من السفر بشوق ولهفة، ولكن سرعان ما تكررت الذكرى السيئة وراء الأخرى والخناقة وراء الخناقة حتى بهتت تلك اللهفة وانطفأت شمعة الشوق في قلوبنا، صرنا نترقب هذه الإجازة السنوية بخوف ورهبة آملين ألا تنتهي بمجزرة أو خناقة كما في الأعوام السابقة.

لم أكن أفهم سبب هذا الشحن السيء الذي يصيب عائلتي، فلقد كنت صغيرا ولا أعي معادلات الكبار، لكن كلما تقدمت في السن وخاصة بعد أن بدأت العمل في مصر، ازداد فهمي لعمق الأزمة لا سيما بعد أن تكررت زياراتي لوالدي في الخليج ورأيت الحياة هناك. إن فرق المعيشة ولا شك أحد عوامل تلك المشاحنات التي أصابت جدار عائلتي بالشروخ والصدوع التي فتكت بنا جميعا وفتت تلك العائلة بالكامل.

ثمن الغربة

إن الغربة لها ثمن لا تدركه إلا العقول الواعية التي ذاقت طعم مرارتها؛ فهي تعطيك سمًّا في عسل ومن دونها تعود لحياة العسل في السم. لا يمكنك أخذ عائلتك معك هناك؛ فالحياة هناك مكلفة وخاصة لو أردت أن تتقدم في السلم الوظيفي مثلما أراد والدي، فالعائلة تقف حائلا بينك وبين ساعات العمل الأطول والتحرك بحرية أكثر، فكان لا بد لنا أن ننفصل في فريقين، فريق الأم في مصر مع الأطفال ومهمتها في التربية والرعاية والنجاح في الدراسة، وفريق الأب الوحيد في الغربة ومهمته جمع الأموال لتمويل فريق الأم في مصر.

يعود أبي في الإجازة مثل المدير الذي جاء في زيارة مفاجأة لأحد الموظفين في شركته، لا يوجد بيت بلا مشاكل، هذا قوي في الدراسة ولكن لديه أزمة اجتماعية مع زملائه في الدراسة، وهذا ضعيف دراسيا ولكن سعيد اجتماعيا، هذا يحب زميلته في الكلية وهذا لا يأكل جيدا وهذا بدأ يدخن السجائر… إلخ من مشاكل الشباب والأطفال في أي منزل.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لم يعُد والدي بعد هذه الغربة ليحل المشاكل، ناهيك عن فرق الحياة بين الخليج ومصر، لا نخرج للفسحة في سيارة والدي إلا وانتهت الفسحة بخناقة مع أحد السائقين أو بسخرية من أحوالنا أو بكلمة ثقيلة الوقع على والدتي وعلينا بأنه لن يستطيع تحمل الحياة هنا أكثر من ذلك. هل فهمتم قصدي عن السم في العسل، سنعطيك المال ولكن لن تسعد بذلك المال مع عائلتك! ستكون حياتك في انفصال زماني ومكاني عنهم.

يتركنا والدي وأنا في عمر الخامسة ولم أمضِ مع والدي تلك المدة حقيقة؛ فأنا لم أره إلا ثلاثة أشهر كل سنة (أي خمسة عشرة شهرا أو سنة وربع)، عمري في عقلية والدي سنة وربع بينما أنا عمري خمسة سنوات. ويزداد هذه الفارق مع الزمن، ففي الوقت الذي بلغت فيه الخامسة عشرة كنت في عقلية والدي بعمر خمسة أو سبع سنوات (لو أردت أن أتساهل سأقول عشر سنوات) كان هذا ثمن أليم أدفعه لغربة والدي…

الفارق الزمني

حاول أن تترك أحدًا يعاملك وأنت في سن العشرين على أنك مازلت في عمر الثانية عشرة وستعرف ما أعنيه. أتذكر كم الشتائم والتجريح والإهانات التي نزلت علي عندما حكيت لوالدي عن رغبتي في أن أخطب أحد زميلاتي في الجامعة. لم يتحمل عقله وقع الخبر، لم يكن مستعدا لمثل ذلك المطلب، لم أجد الأخ الكبير أو الصديق الرفيق الذي يساعدني في هذه المرحلة، كل ما وجدته هو راعي القطيع أو مدير الشركة الذي انهال ضربا وشتما على أحد موظفيه لأنه خرج عن إطار العمل.

لم تتخيل والدتي مثل هذه الحياة فتصورها كان أن الحياة مع والدي: رجل ناجح في حياته ومرتبه قوي ودينه جيد ومتعلم، توقعَت أن الحياة مع هذا الرجل ستكون سعيدة! لعلي أتمنى أن أعود في الزمن لوالدتي وهي عروس لأسألها ما مفهومها عن السعادة؟ لا أعرف إن كنت سأحكي لها عن المستقبل، فلو حكيت لها ربما لن أولد لأنها ربما لن ترغب في الزواج من أبي أو في الزواج مطلقا. وربما لو لم أحكِ فإني سأتركها لعذابها في هذا الحياة التي أعرف نتيجتها جيدا. حبي لها يمنعني من أن أقول لها ولكنه في نفس الوقت يلح علي أن أصارحها. وهنا أحمد الله أن السفر في الزمن مستحيل!

أنظر لأصدقائي نظرة المحتار وأنا أراهم يلهثون وراء السفر بكل الطرق. وأنا خارج من ذلك الباب لتوِّي “باب الغربة”، فأنا نتاج الغربة وابن الغربة الذي ترعرعت في كنفها… غربة الأب وهو معنا وغربتي عن السعادة والمظاهر تقول أنني ينبغي أن أكون سعيدا. أخرج من ذلك الباب بعد أن أقسمت ألا أدخله مرة أخرى لأجد الناس كالمجانين يتصارعون على دخوله. منهم من يضربني بحقائب سفره وهو مسرع لدخول الباب ومنهم من جلس على ركبتيه ينتحب ويصرخ لأنه لا يستطيع الدخول ومنهم من يتعلق بأقدام المسافرين لعله يركب معهم ولا يلاحظه الحرس الذين وقفوا على البوابات ليمنعوا من لا يملكون الفيزا والأوراق السليمة من الهروب.

الغربة ، هل أوصلت للسعادة؟

أرى ذلك المنظر الهزلي وأنا في غاية الدهشة! فها أنا ذا أحاول الهرب من أهوال هذه المغارة المشؤومة بينما هم يسارعون إليها وكأنهم قد حسموا أمرهم وحسبوا معادلاتهم بدقة وقدروا الخسارة والربح. أنظر لذلك المنظر ثم أسير في شوارع بلدي الحبيب فأجد منظرا آخر شعرت معه أنني ألمس الواقع دون تزييف أو حجاب. رأيت ذلك الولد رثَّ الملبس الذي جلس أمام “كرتونة” بالية قد رتب عليها أكياس المناديل التي يبيعها وافترش الأرض بعد أن أمسك بيديه بقلمه الرصاص المكسور ليكتب في كراسته الواجب المدرسي.

لا أعرف ما الذي أصابني أو أثر في عند رؤيتي لهذين المنظرين المتناقضين، ولكن انتابني شعور بالغضب والأسى على هذا الواقع المرير الذي أعيش فيه. فنحن نرفع صوت المذياع في السيارة ليغطي على صوت أنين الناس وعذابهم في الشارع من حولنا، ونطمس زجاج السيارة بالطبقات القاتمة لكي لا نرى معاناتهم، فلا ننشغل إلا بالوجبة السريعة الديليفري التي تأخر عامل التوصيل في توصيلها لنا في المنزل المكيف الراقي أو بالفتاة الرقيقة ذات الأنامل العاجية والصوت الرقيق التي أذهبت عقل ذلك الشاب فلم يعد يتخيل الدنيا من دونها!

لماذا سافر والدي؟

هل خاف عليَّ أن يكون مصيري مثل ذلك الولد “بائع المناديل”، أم تمنى لي مستقبل ذلك الشاب صاحب السيارة الفارهة. أم يا ترى رأى أن الولد “بائع المناديل” لا يستحق العناء والمجهود فذهب للخليجي صاحب الجلباب والغطرة أو “الكفيل” كما يسمونه (تاجر الرقيق كما أحب أن أسميه) ليخدمه.

وهل لو مكث والدي وغيره من الملايين الذين ملؤوا الأرض شرقها وغربها من المحيط للمحيط وخدموا العالم كله بخبراتهم وعلمهم، هل كان مستقبلنا أو بالأصح حاضرنا أنا وذلك الولد البسيط وغيرنا الملايين من أبناء هذه الأمة الذين يعانون من الظلم دون أن يجدوا من يساعدهم، هل كان من الممكن أن يتغير حالنا وحاضرنا لو لم يسافر والدي وغيره من جيل الثمانينيات ومكثوا في بلدهم وقرروا أن يخدموها. نعم، هو طريق لا شك أنه أصعب من الهروب للخارج والتمتع بأموال الخليج وثرواته… لكن هل وصلوا للسعادة في النهاية؟

اقرأ أيضا:

 المال والإيمان.. أزمة المجتمع المعاصر .. ما هي وكيف نعالجها ؟

عندما نتآكل من الداخل.. ماذا يفعل بنا الاكتئاب ؟

لُب الزيتونة .. البحث عن السبب الجذري أفضل من معالجة الآثار الناتجة عنه

 

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.