سقراط في المدينة…هل من سبيل للرحمة؟
سقراط يعود !
استيقظ سقراط من نومه وقد عقد العزم على الخروج من عزلته والنزول إلى العامة ومخالطتهم ومحاولة تغيير ما آلت إليه أحوالهم والتي عرفها من أتباعه الذين ينزلون القرى، فتحدث أتباعه معه هل ستنزل إليهم مرة أخرى؟! ألم يكفي ما حدث سابقا من شرورهم وعقلياتهم المتجمدة؟!
إنهم أناس لا يجدي معهم النصح، إنهم جفاة غلاظ القلوب والعقول، لن يجدي نصحك وحكمتك معهم، إنهم لا يستحقون حتى أن تتكلم معهم! فيجيبهم سقراط : لو وجدت أن أحدًا من أولادك غليظ القلب قد تركك وهجرك ثم سمعت أنه في كرب فماذا أنت فاعل؟ فيجيبه الأتباع سنجري مسرعين له! فيقول لهم سقراط كذلكم هم بمثابة أبنائي وأنا أرى أنهم بحاجة إلى العون، بحاجة إلى النصح، فما فائدة الفلسفة والحكمة إن بقت في برجها العاجي، الفلسفة الحقيقية هي القائمة على مخالطة العامة وتوجيههم إلى الخير والصلاح.
ثم نزل سقراط إلى القرية ومر على تاجر الأرز والسكر والقمح فلقيه ساخرا: هل بعثت من جديد يا سقراط ؟ هل ابتعثك الله لترشدنا إلى جنة الخلد؟! فيجيبه سقراط : مرحبا بك يا أخي، لقد اشتاقت نفسي إليكم، كيف هو حالكم؟ كيف هي تجارتكم؟ كل شيء في أحسن حال والمال وفير (يجيبه الرجل)، فيسأله سقراط: لكن علمت أن هناك نقصًا في السلع الأساسية، هناك نقص في السكر والأرز والأسعار ويشتكي كثيرٌ من الناس من غلائها المفرط فهي لا تثبت حتى على حال، كل يوم سعر جديد ويا ليتها متذبذبة (ارتفاعا وهبوطا) بل هي دوما في ارتفاع مستمر.
أتريد أن تكون صالحا ؟
فيقول الرجل: يجب أن نربح يا سقراط ، أتريدنا أن نبيع السلع بأبخس الأثمان؟ أتريدنا أن نفتقر ونمد أيدينا إلى القوم؟ أتريد أن نكون عالة على القوم؟ كفى حكمًا جوفاء يا سقراط ! فيجيبه سقراط: لم أطلب منك أن تبيع بأبخس الأثمان! قل لي كيف تنظر إلى الطبيب الذي يغالي في أجرته عندما تذهب بولدك إليه؟ هل تراه جشعًا قاسي القلب؟ أكيد هو كذلك (يجيبه الرجل)، فيسأله سقراط كيف تراه لو كان معتدلا في أجرته وكان رحيما بك وبولدك، هل ستقول عليه أنه عطوف وستذكره بالخير، بل وستنصح الآخرين إن أصابهم مرض ما أن يذهبوا إليه؟ فيجيبه الرجل بالتأكيد.
إذا فإنك لو عاملت الآخرين بنفس المنطق والمعاملة التي ترغب أن يعاملك بها الطبيب، سيقول القوم كلاما طيبا عنك وسينصحون الآخرين بالشراء منك لأنك تاجر صالح تحب الآخرين، ولا تبخس الناس أشياءهم، إن في كلامك لطلاوة وجمال يا سقراط، نعم أريد أن أكون هذا التاجر، أريد أن يتذكرني الناس بكل خير، أريد أن أكون نموذجا للتاجر الطيب الذي يشعر بمعاناة الآخرين.
كانت تلك قصة افتراضية تصف الواقع الذي يعانيه الكثير منا، فعامة الأمة قد ابتليت بارتفاع الأسعار وجنونها المفرط، والكل أصبح لا يفكر إلا في نفسه وكيف سيقضي يومه ويجد قوته وقوت أولاده، هو الجنون والجشع والهوس المرضي الذي أصاب قطاعًا عريضًا من عبيد المادية الذين لا يرون إلا مصلحتهم ولا يرون الآخرين الذي يعانون من الغلاء ومن ارتفاع الأسعار؛ بل يعملون على تكديس وتخزين السلع الأساسية لكي تندر في السوق فيرتفع ثمنها، ومن ثم يجنون الأرباح الوفيرة ولا يهم بعد ذلك ما الذي يعانيه الآخرون.
حلقة الشر المادية
إنه الشر المقنع في رداء المادية، لا يعلم هذا التاجر أنه كما يغالي على الآخرين سيجد من يغالي عليه، سيجد السباك يرفع أجرته، سيجد سائقي الأجرة يرفعون الأجرة، الطبيب سيغالي هو الآخر، إنها حلقة متصلة بعضها ببعض، الناس كلهم مترابطون، كلنا جسد واحد إن أصاب جزء منه عطب أو خلل أثر على باقي الأجزاء والأعضاء ، فيا ليتنا نعلم أن هذا هو الواقع، أننا مترابطون، يجب أن يكون للرحمة مكان في قلوبنا، فمن لا يرحم لا يرحم، والكلمة الطيبة والحكمة المغلفة بالرفق وعدم التعالي هما السبيل لفتح القلوب.
التعالي والكبر المصحوب بالنصيحة هو داء، لن تجدي نصيحة يصاحبها كبر، التسامح والرفق والتواضع هم أفضل السُّبل لإقناع هؤلاء الذين يكدسون الأموال ولا يشعرون بالآخرين، فالكل مطالب إن امتلك النصيحة أن يسديها برفق، فليرحم بعضنا بعضًا وليسامح بعضنا بعضًا، فالتسامح قوة لن يعرفها إلا من امتلكها.
اقرأ أيضا:
أزمة العدالة والخير و الشر.. ألن نتمتع بعالم خالٍ من الشرور ؟
المال والإيمان.. أزمة المجتمع المعاصر .. ما هي وكيف نعالجها ؟
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.