ليس الصديق الذي تعلو مناسبه.. بل الصديق الذي تعلو شمائله، ولكن كيف أجده؟
كثرت الدعاوي والأقاويل التي تدعو إلى اعتزال الناس، واجتناب الصحبة و الصديق ، والاكتفاء بمصاحبة النفس حتى تتفادى أى ضرر يلحق بها؛ فجاءت مُتمثلة بهتافات على منوال “مفيش صاحب يتصاحب” وغيرها من عبارات على نفس الشاكلة التي لا أعرف تحت أى مسمى تندرج، وصفحات التواصل الاجتماعى تتبنَّى تلك الدعاوى بجدارة، فلا يمر يوم إلا ونقرأ عن أناس تتطوعوا لينصحوا غيرهم بأضرار وأخطار مخالطة الغير، واللجوء إلى حياة فردية تضمن العيش بسعادة دون مُنغِّصات، ولا هناك ما يوجد في واقعنا ما يُعرف بالصداقة!
وليست هذه الأفكار وليدة عصرنا هذا، ربما نادى بها العرب قديمًا، فيقول أحدهم:
“لمّا رأيتُ بَنى الزّمانِ وما بهِم خلٌّ وفيٌّ، للشدائدِ أَصطفى
أيقنتُ أنّ المستحيلَ ثلاثة: الغُولُ والعَنقاءُ والخِلّ الوَفي”.
فوجود الصديق الوفىّ شيئ محال وجوده، ولا يمكن حدوثه، فهل حقا لا يوجد صداقة؟! وهل يمكن للفرد أن يحيا وحيدا بصفاء دون تكدير؟! لنرى إذن!
الانسان كائن حى كسائر الكائنات الحية من أدناها لأرقاها لا يحيى دون عشيرة أو مجتمع يُلبى الحاجات الجسدية ، وبدون المجتمع يهلك ويفنى؛ ولكن مُيِّزَ الإنسان بالعقل الذى بدوره مسئول عن إشباع حاجات روحه، واتزان وجدانه، ويرشده للسبل لتحقيق ذلك؛ ويتضمن تلك السبل صحبة تعين الفرد لإكمال نواقصه، ترجح الحق، وتواثب الباطل.
واتفق علماء النفس جميعًا أن الشعور بالأمن والاطمئنان لا يقتصر على الكيان المادى للفرد، وإنما يتضمن الأمن النفسى والمعنوى، ومما يسهم في تحقيق ذلك الإحساس بالأمان شعور الفرد بحب الأخرين له وتعاملهم بدفء ومودة معه، والحاجة إلى التقبل من الغير وتقدير الذات، ولا يتسنَّى للفرد إشباع تلك الحاجات إلا بوجود صحبة يرتبط معهم بميثاق روحى يفيض بالإخلاص والإخاء .
الحاجة لوجود الصديق
فكان الحاجة لصديق يسدي العقل، ويؤنس القلب، ويسمو بالنفس، يتقاسم لحظات الفرح، ويشاطر أوقات الحزن، سندٌ عند السقوط، عكاز عند الضعف، دليلٌ عند الضلال، مرشد ٌ وقت التيه؛ فهو خليل الروح الذي يعرج بها إلى مراتب السكينة والاطمئنان والكمال.
وعندما يدرك العقل تلك الغاية يستقصي الطرق لتحقيقها؛ فيُمعن النظر عند اختيار الصديق، فلابد أن يتوافقا فكريًا، فيشتركان فى تكوين رؤى كلية ترفض الظلم بمختلف أشكاله، وتنتصر للحق ليتحقق العدل سواء على مستوى الفرد أو المجتمع؛ وربما يختلفان في اهتماماتهم وميولهم وهواياتهم، فكل له قدراته واستعداداته، فالصديق ليس مطابقا لصديقه ولكن مكملا له.
والأخلاق هنا هى الدرع الواقى لأى علاقات إنسانية، سواء للناس عامة أو الأصدقاء خاصة، فهى التى تتجاوز الزلل، وتعفو عن السقطات، ويرتكز عليها الاختيار، بل هى التي تُحتم حسن المعاملة ، وميزان السلوكيات والأفعال، وبها لا تنضب المحبة، وتستمر الصحبة بأسمى معانيها، وأرقى صورها؛ وصديق بلا خُلق عدو مستتر للروح يسقط بها على دركات الجهل والتهور.
وليس كل من يجمعهم حجرات دراسة، أو غرف عمل، أو ربما سكن، يستلزم أن يكونوا أصدقاء بما تعنيه الكلمة من معنى، وتشتمله من حقوق، فإن لم تجتمع عقولهم وقلوبهم معا فليس هناك صداقة، لكن تبقى المشاعر الإنسانية متبادلة ، والأخلاق قائمة.
ومساعدة الصديق واجبة بما تتحمله النفس دون ثقل، وتسطيعه من إمكانيات، شرط ألا يتحول ذلك لأى صورة من صور الاستغلال، تستنزف الصداقة وترهقها، فتدمرها.
ونحن معرضون لارتكاب الخطأ، والسقوط في الزلات، واقتراف الهفوات، فيأتى الصديق هنا ليُطهرنا بالنصح من أخطائنا، ويعفو عن زلاتنا، وينقِّينا من هفواتنا؛ فالصديق ملاذ صديقه عند العثرة، وبه اعتداله واستقامته، فذلك حق وجب تأديته دون تقاعس أو تخاذل.
وجود الصديق الوفي ليس بمستحيل
وربما تتباين الفروق بين الأصدقاء، وتلتبس المعانى؛ فيتعذَّر الفهم، وتتزعزع العلاقة، ويصعب اتباع الحكمة، فتنشأ اختلافات علينا أن نتدبرها حتى لا تؤدى أوتتفاقم إلى خلاف يصل بقطيعة أو هجر دون وصال؛ فيأتى العقل هنا ليكون ناصفا للحق؛ فيصبح العتاب حق مكفول للوصول للصواب، وقبول الصلح أمر واجب تحتمه مشاعر الإخاء والود والمحبة؛ فإن لم يكن بعد ذلك دوام للصداقة، وكانت القطيعة هي الخيار الوحيد، اقتضى حفظ العهود والأسرار، واستلزم حسن القول والسيرة عند ذكر الصديق.
ووبعد أن وضحنا معنى الصديق، وضرورته، وقواعد اختياره، وأسس التعامل معه، لضمان تحقيق الغاية المرجوَّة من الصداقة، فمن أى منطلق نتبع هؤلاء الذين ينادُون ليل نهار بأن الصحبة منبع الآلام والأوجاع ؟! فهم يومًا ما كانوا أصدقاء ربما لم يراعوا أخلاقيات التعامل وحقوق الصديق؛ فلجأوا إلى هذا الحكم الجائر، الذي يدعو لتقوية نزعات الأنانية، وحب الذات، ليتجرد الإنسان من معانيه، ومصادفة أن شخصًا ما لم يُوفَّق في اختيار صديقه فجلب ذلك له الأسى، لا يمكن أن نعتبرها قاعدة نحتذى بها، فعذرا لكم؛ نحن نسترشد بأهل الحكمة والرصانة ،فوجود صديق وفىّ ليس بمستحيل.
اقرأ أيضا:
الكوميديا ودورها الهام والمؤثر في الغزو الثقافي والفكري في المجتمعات
دواء فاوست .. صناعة الدواء بين الاحتكار والعدل! أحق الحياة مكفول للجميع ؟
هاري بوتر والجمل الطيب .. تأثير الإعلام والأضرار التي يقدمها لأطفالنا الصغار
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.