الاقتصاد ده عرض وطلب! على رأي الاقتصادي آدم سميث
العرض والطلب
نموذج اقتصادي أساسي وقوي، صراحةً لا يمكن تخيل أي دارس للاقتصاد لا يدرس هذا النموذج. يسمح هذا النموذج – العرض والطلب – بتحويل الميول الاجتماعية لقوى ميكانيكية ديناميكية يمكن تحليل التفاعل بينها كما نحلل القوى في علم الميكانيكا.
وذلك بهدف تقديم نموذج بسيط لمحاكاة التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية بصورة بسيطة وذكية تسمح في غايتها القصوى بالتنبؤ بنتائج تغيير مؤثرات وعوامل معينة بدقة مقبولة. وبناءً على هذه التنبؤات يمكننا -أو هكذا نعتقد- أن نتحكم في المستقبل الاقتصادي من خلال قرارات نتخذها في الحاضر تحقق نتائج متوقعة في المستقبل.
متى ظهرت؟
ظهرت هذه النزعة الديناميكية في علم الاقتصاد على يد الاقتصادي الاسكوتلندي المشهور آدم سميث في القرن الثامن عشر. نقطة جانبية أحب أن أشير لها متعجبا بل ومتأسفا؛ فالغالب أننا عندما ندرس الاقتصاد نبدأ من تلك النقطة -نقطة آدم سميث، ولا نتساءل عن أي شيء قبل هذه النقطة. كأن علم الاقتصاد لم يكن موجودا ثم قدَّم آدم سميث بحثه ومؤلفه الأكثر صيتا ≪بحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها≫ فأصبح هناك اقتصاد وعلم فجأة! طبعا نظرة ساذجة وسطحية جدا ولها تداعيتها السلبية على حياتنا اليوم ومعاناتنا الاقتصادية، ولكن هذا ليس موضوعنا اليوم.
أزمتنا الحقيقية التي أريد أن أناقشها هي أزمة أن نظرية العرض والطلب لم تقدم في بداية أمرها إلا كنموذج محاكاة بسيط وسلس للتعبير عن ميزان السوق الاقتصادي بين المنتج والمستهلك، أو هكذا كان التصور.
أما اليوم فنداءات علماء الاقتصاد وأساتذة الاقتصاد في الجامعات (وهذا هو ما يتعلمه الشباب في الجامعات اليوم) هو مبدأ أن الاقتصاد ≪علم كل شيء≫ أو كما تقال بالإنجليزية “economics is the science of everything”. لا أعتبر نفسي من المتخصصين في المجال لحد يسمح لي أن أجزم أن هذا الإدعاء صحيح تماما أو خاطئ تماما. ولكن على الأقل لي الحق أن أبدي بعض التحفظات على هذا الإدعاء وأثره على حياتنا كنقد أرسطي إجمالي لنتيجة القضية حتى وإن كنت لا أستطيع أن أثبت فساد المقدمات المطروحة حتى الآن.
في ضوء نظرية ≪علم كل شيء≫، فإن كل شيء خاضع لديناميكية العرض والطلب بشكل لا يمكن تخيله. وكأن النموذج تحول لآلة جبارة لا يمكنها فقط حل معادلات السوق والكساد والتضخم فقط، بل كل شيء!. يمكنك أن تفهم كل شيء وأي شيء لو استخدمت هذا النموذج!
مثال الارتباط
حسنًا إذا علينا أن نجد بعد الأمثلة المناقضة لو أردنا أن ننقد هذه القاعدة المطروحة إجمالا. وأنا سأختار موضوع الزواج، ولا عجب لأن أغلب دورات ومناهج الاقتصاد لا سيما في الغرب تفضل النزول بالاقتصاد لميدان الحب والعلاقات الاجتماعية لأن هذا موضوع يجذب الشباب لعلم لو درس في مجاله التخصصي فقط لن يكون جذابا للطلبة أن يدرسونه، هي برأيي سياسة تسويقية ذكية وفعالة في تحقيق قبول عالٍ على الاقتصاد.
فمن منا لا يريد أن يعرف ديناميكية سوق العلاقات الاجتماعية مع الجنس الآخر؟!
ديناميكية العرض والطلب في حالة الزواج
ولكن الموضوع الذي سأختاره ليس المرافقة على طريقة الغرب ولكن الزواج الشرعي في عالمنا الشرقي بالعموم، لا الزواج على الشريعة الإسلامية فقط لأن المبدأ واحد تقريبا بين مختلف مكونات مجتمعنا الشرقي. والمحور هنا طبقا لرؤية الاقتصاد أن المرأة تنتج ≪سلعة أو خدمة≫ معينة (لا تعليق) وأن الرجل يريد هذه ≪السلعة≫ لأنه ≪مستهلكك أو مستخدم≫ لهذه ≪السلعة أو الخدمة≫.
وطبقا لقواعد الاقتصاد ما أن تتوفر الحاجة ≪لسلعة أو خدمة≫ معينة في ≪سوق حر≫ به العديد من ≪المنتجين≫ و≪المستخدمين≫ فإن قاعدة العرض والطلب تكون أنسب شيء لفهم ديناميكية السوق. هنا يبحث الاقتصادي في تحليله عند ≪المستهلك≫ عن ≪تكلفة الفرصة البديلة≫. هذا المبدأ المؤسس للسوق أصلا، هذا المبدأ يقول أن التكلفة الحقيقية لأي سلعة تريدها ليس شرطا أن يكون ثمنها المادي، بل هو مبدأ أعم وهو تكلفة الفرصة البديلة، ما يجب عليك أن تضحي به منه كقيمة معينة (سلعة أو خدمة أو حتى مال) في سبيل الحصول على هذه السلعة.
هنا علينا أن نبحث عند الرجل ≪المستهلك≫ عما يمكنه أن يضحي به ليحصل على سلعته! بالطبع المال، الوقت، الراحة، وغيرها من الأشياء التي يجب أن يضحي بها الرجل ليحصل على غايته في موضوع الزواج (والموضوع مماثل للمرأة ولكن هنا نطبق قواعد الاقتصاد– فالمستهلك يدفع والمنتج يربح). فالرجل غير المتزوج سيمكنه الاستفادة من كل تلك الأشياء لو لم يحصل على ≪السلعة≫ التي يريدها من الزواج وبالتالي فهي تكلفة الفرصة البديلة له.
المعنويات لا تخضع لقانون العرض والطلب
ولكن الاقتصاد والميكانيكا لا يمكنهما قياس الراحة والتوتر العصبي والتربية والحب والمشاعر قياسًا ماديًا. كيف سيتعامل نموذج طبيعته وموضوعه مادي مع موضوع طبيعته غير مادية؟ هنا سنضطر لاختزال العوامل كلها في قيمة مادية، يستعد الرجل للتنازل عنها ≪للمنتج≫ ليحصل على سلعته. ما هو هذا الثمن؟ المهر أو الشبكة وخلافه من مقدمات الزواج المادية التي يضحي بها الزوج ويدفعها ثمنًا في سوق الزواج ليشتري سلعته.
هنا تبدأ المشاكل، ناهيك عن أن التعريف الشرعي للمهر يخالف تماما التوصيف الذي يعرفه به نموذج العرض والطلب كثمن في مقابل سلعة! (كانت هذه مقدمة كافية لنرفض النموذج في محاكاة هذا النظام، وكنا سنسقط قاعدة ≪علم كل شيء≫ فورا) ناهيك عن ذلك دعنا نخوض أكثر في النتائج الأخرى التي سيتوصل لها هذا النموذج لأكون لكم تصورًا كاملًا عن القضية.
تحدث التجارة بفاعلية قصوى في الاقتصاد فيما يسمى بـ ≪السوق الحر≫. وفي السوق الحر المثالي لا يوجد قانون أو جهة عليا تملي على المنتج أن يبيع سلعته بسعر معين أو أن يوفرها بكم معين أو بجودة معينة. والقاعدة الأخرى الهامة التي تنتج في هكذا أسواق هي اتزان السوق، وهي أن في السوق الحر تميل أسعار المنتجات أن تقترب من سعر مستقر وهو ما يسمى بسعر اتزان السوق. هذا السعر يفرض نفسه ديناميكيا على المنتج والمستهلك.
وبناءً على قيمة سعر الاتزان فإنه ستتحدد الكمية المنتجة والمستهلكة من المنتج؛ فقاعدة الاستهلاك هي أن استعداد المستهلك لاستهلاك منتج معين يقل كلما زاد سعر المنتج (تكلفة الفرصة البديلة ترتفع). والعكس بالنسبة للمنتج، فكلما زاد سعر المنتج كلما زاد استعداد المنتج للإنتاج.
الخلل الثاني
وبالتالي يتضح أن سعر استقرار السوق سيحدد على أساسه حجم السوق –كمية السلعة المتبادلة تجاريا في السوق. فالمنتج يقلل أو يزيد من إنتاجه ليتوافق مع سعر الاتزان، بينما المستهلك الذي لا يستطيع أن يوفر سعر المنتج سيبحث عن منتج بديل ربما أقل جودة وأقل تكلفة لسبب أو لآخر ليلبي احتياجه أو ربما لا يبحث عن المنتج أصلا ويستغني عن إشباع تلك الحاجة من الأصل ≪لا تأكل الكافيار إن كنت لا تملك ثمنه≫.
وهنا الخلل الثاني في النموذج وتطبيقه على قضية الزواج، فالزواج ليس كالكافيار لكي أحقق هذه الشروط التي ينصح بها النموذج. فلا أنا كمنتج أستطيع أن أعدل كمية الإنتاج لتناسب حجم السوق عند الاتزان ولا أنا كمستهلك أستطيع أن أجد ≪منتجًا≫ بديلًا لأتزوجه! ولا أنا كإنسان أستطيع أن أتغاضى عن حاجتي للزواج.
فهذا أمر غريزي في إنسانيتي، وهو ليست كغريزة الطعام يمكن إشباعها بأكثر من شكل لتتكون أسواق بديلة. إلا أنني يمكنني تخيل الأسواق البديلة من وجهة نظر حضارة وثقافة مادية لا تمتلك أي قيمة أخلاقية أو مبدئية عليا غير إشباع الرغبات مهما كان الثمن: زنى أو دعارة أو شذوذ أو أي من العادات السيئة الأخرى التي يصدرها لنا الغرب من مواقعه الإلكترونية المتقدمة وتغليفه المبهر للواقع الأليم الذي يفرضه علينا بنموذج لا يحاكي الواقع بشكل سليم ويفترض على الرغم من ذلك الغرب أنه اكتشف ≪علم كل شيء≫.
عودة للقيم الحقيقية
في النهاية علينا أن نعود لقيمنا الحقيقية، لتعريفنا الحقيقي للمهر وللزواج وللمرأة وللأسرة وللمجتمع. من الذي يظلم المرأة ويهين آدميتها اليوم؟ هل مازال في رأيكم الدين والمجتمع الشرقي (وإن كان تاريخنا به الأخطاء التي لا أدافع عنها بل أدعو لإصلاحها وللفظ الفاسد منها) أم المجتمع الغربي الذي أخذ حجة وجود شروخ في الحائط لكي يدمر المنزل بأكمله ويبني هو بناءه اللاإنساني الشاذ القاسي الذي قد يراعي اتزان السوق والسلع والعرض والطلب لكنه لا يراعي اتزان الإنسان والمجتمع. أترك لكم الحكم.
اقرأ أيضا:
محمد صلاح والبحث عن الذات .. السعي والتركيز على الهدف وتحديد الطريق
خلود جلجامش في عصر العولمة .. ولنا من روايات السابقين عبرة
المعاناة والألم … هل من سبيل للخلاص من المعاناة ؟ ولماذا نعاني من الأساس ؟
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.