مقالات

أتتذكرون ليلة العيد الصغير؟

أحن إلى أقراص اللحم التي تصنعها أمي!أستيقظ باكرا، يوقظني أبي، يصحو أخوتي، أنهض بتكاسل بسيط، أستحم، أغسل أسناني، ثم نفطر، تحرص أمي أن يكون الإفطار تمرا رطبا؛ فهذه سُنّة أرتدي لبس عيد جديد، وتبدأ البهجة تزاحم صدري لتطرد الكسل

ننزل لنقابل جدتي، أقبل يداها، وأستقبل العيدية الأولى، وهي عيدية ضخمة، تساوي تقريبا إجمالي ما سأجمعه بقية اليوم، أنطلق أنا وأخي سعداء فرحين، نتسابق أمام أبي وبجواره.

تضربنا لمسة البرودة في الشارع، نقابل بعض المعارف والأقارب فنسلّم عليهم، ونتمنى لهم عيدًا سعيدًا.

بجوار المسجد الكبير يجتمع نصف أهل البلدة، والنصف الآخر في الطرف المقابل من البلدة.

صوت التكبيرات يهز الوجدان، النغم جميل، والوحدة بين الناس باعثة على اطمئنان دافئ، ولمسة البرودة ما زالت تهز جسدي الصغير.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر؛ لا إله إلا الله.

والله أكبر، الله أكبر؛ ولله الحمد.

نشق الصفوف بحثا عن مكان مميز، بعض الشباب يقف بين الصفوف يوزع التمر، نقابل المزيد من المعارف ونسلم عليهم، ننتهي لمكان مناسب للجلوس، نفرش المصليات، ونجلس.

تتوالى التكبيرات، تنسجم مع العالم كله، كأن السماء تكبّر معنا، وتلك السحب القليلة المجتمعة تنضم للإنشاد، والأرض رائحتها جميلة، أرض زراعية ندية، تداعبنا رائحتها لتختلط بالتكبيرات العذبة، فتزداد عذوبة اللحظة.

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر؛ لا إله إلا الله.

والله أكبر، الله أكبر؛ ولله الحمد.

يعلنون دخول وقت الصلاة، يقف الحضور فجأة في موقف مهيب، يُذكّر الإمام الحاضرين بكيفية صلاة العيد، أستمع بانتباه شديد، فكل مرة أنسى كيفيتها تماما.

تبدأ الصلاة، أعد التكبيرات باهتمام واستمتاع، أستغرق في ذلك تماما، صلاة ندية مختلطة بروائح الأرض الطيبة، ومحاطة بالنفوس الجميلة للأهل والمعارف.

وعندما يسلم الإمام تنتهي الصلاة بالنسبة لنا، لا ننتظر الخطبة، فهي طويلة جدا بالنسبة لنا، ومواضيعها مغلقة أمام عقولنا الصغيرة، نقفز منطلقين، أرتدي الحذاء الجديد، وأنطلق مع أخي باحثين عن أقاربنا الصغار، نتبادل التحيات، ثم نجري مسرعين للبيت.

في البيت تقابلنا رائحة “أقراص اللحم بالأرز”، هذا الطبق الذي تتميز به بلدتنا صبيحة العيد، فلا عيد بدونه. الرائحة الشهية تجعلنا لا نطيق انتظارا، نهجم على الأقراص بنهم، ما أطيب صنع يد أمي!

ننتهي من الوجبة المقدسة سريعا، ثم نأخذ العيدية من أبوينا، وهي تشكل مع عيدية الجدة رأس مالنا الأساسي في العيد، ثم نقفز مسرعين إلى بيت جدتي الأخرى!

هناك نقضي بقية اليوم في اللعب مع أقراننا، لا نريد أن يعطلنا شيء أو أن ننصرف، وعندما يحين المساء ويأتي أبي وأمي لزيارة بيت العائلة؛ لا نرغب في العودة معهما، بل نريد قضاء بقية الليل هنا، وكثيرا ما ننال مبتغانا.

أحن إلى عيد الطفولة!

الأحبة وطن، والأمن هو أن تتقبلك الأرواح فلا تنبذك، والسكن هو حين تسكن في نفوس الآخرين، والغربة تكون بفقد هؤلاء، وما يعلق في نفوسنا وذاكرتنا هو أثر تلك النفوس!

كبرنا وكبر العيد، وكبرت هموم الدنيا ومشاغلها، وتفرق الكثيرون في نواحي الدنيا، وتفرق آخرون في نواحي الخلافات التافهة، وقل التجمع المهيب العذب في العيد، وفي غير العيد.

غربة ما انسلت إلى الأرواح.

قد يتحمل الإنسان عشرات السنين من السجن في زنزانات جماعية، لكنه لا يطيق بضع أيام في الحبس الانفرادي!

يحكون عن إمبراطور حاول أن يعرف أي لغة هي اللغة الطبيعية للبشر، فأمر بمجموعة من المواليد أن يتم عزل كل منهم وحده، فلا يكلمه أحد من الناس، فقط يطعمونه ويسقونه، لكن دون تعامل بأي لغة، ليرى نوع اللغة التي سيطورها هؤلاء الأطفال.

لكن النتيجة كانت مفجعة؛ مات جميع الأطفال!

ماتوا لأنهم فقدوا الاتصال البشري!

الاحتياج للاجتماع مع البشر الآخرين احتياج قوي، وغريزة جارفة، وربما هو أهم احتياج بعد الطعام والشراب للإنسان، بل ربما بنفس قيمتهما كما نرى في القصة السابقة.

بل حتى الطعام والشراب لا يمكن للإنسان أن يحصل عليهما وحده! بل يحتاج للاجتماع كي يحصل عليهما! سواء كان طفلا، أو حتى كبيرًا؛ يظل قيامه بأمره وشؤونه وحده صعب، وأحيانًا مستحيل.

ومن هذا الاجتماع نمتص أفكارنا، وعاداتنا، وأخلاقنا، وذكرياتنا، وآمالنا، وأحلامنا، وطريقة رؤيتنا لأنفسنا وللعالم! وهنا تظهر خطورة أخرى هائلة له!

لكن في مرحلة ما من حياتنا نمتلك القدرة على الاختيار؛ أن نستمر على ما تربينا عليه أو أن نتركه، أن نظل على الدرب أو نختار دروبا أخرى، هذا الاختيار هو ما يميز الإنسان وعقله.

أن تختار بين أفكار لقنها لك مجتمعك الصغير أو الكبير وبين أفكار أخرى جديدة تماما، بين عادة أو خلق كانا شائعين فيهما أو أن تطور عادات جديدة.

وسبب اختيار الإنسان، هو قدرته على التمييز بين الحسن والسيء، بين الخير والشر.

ففي كل لحظة يميز الإنسان بين الجميل والقبيح، وفي كل لحظة يختار بينهما، وما أجمل أن يساعده مجتمعه على اختيار الجميل! وما أحسن أن يحثه على اجتناب السوء!

ربما من أجل هذا خُلقت البشرية، من أجل هذا أُسكنوا الأرض، ومن أجل هذا بقي نسلهم؛ كي يعمروها، عمارة خيّرة إلهية، وليست شريرة شيطانية، عمارة تختار الجمال، وتنفر من القبح.

كي يعم العدل والخير، ويتوقف الظلم والقبح اللذان يتوسعان باطراد في عالم اليوم.

ربما هذا إرث الأرض الذي يرثه أهل الخير، المدينة الفاضلة التي حلم بها الفلاسفة، والبشرى التي بشر بها الأنبياء.

عندها تصبح أيام البشرية كلها عيدًا، عيد فيه ما هو أجمل بكثير من أقراص اللحم الشهية!

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط

ندعوكم لزيارة قناة الأكاديمية على اليوتيوب

أحمد عزت

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا