مقالاتقضايا شبابية - مقالات

فِي سُنَنِ الحب، ما هي علامات الحب الناجح؟

تعلقت الإرادة الإلهية ألا يتم الاجتماع الإنساني إلا بارتباط بين جنسين، بينهما تشابه واختلاف؛ فيكون هذا الارتباط  المبني على الحب هو الأساس الذي تُبنى عليه المجتمعات، وهو المبدأ للحياة الجديدة.

وزرع الله في النفوس الميل لهذا الارتباط، فهو موضع قضاء الشهوة، ومتعلق كثير من العواطف والمشاعر، ومنه وبه سكن نفسي، وهو منشأ للرحمة ومهبط للمودة  وزاد للحياة.

وقد تنوعت النظرة لهذا الارتباط والحب بتنوع الأفكار والفلسفات والأديان والثقافات، وتنوعت صوره وأشكاله.

الرؤية المادية عن العلاقات الإنسانية

ففي الرؤى المادية مثلًا؛ يكون الارتباط مقتصرًا على الجانب المادي الجسدي للإنسان، فهبطت به هذه الرؤى لمصاف العلاقات بين الحيوانات، طالبة اللذة الحسية فقط.

ومن ذلك وبه رأينا التسليع المادي لهذا الارتباط، ونزع العاطفة منه، ونزع المعنى والقيمة؛ كالالتزام تجاه الآخر أو إقامة الأسرة، أو كون العلاقة وسيلة لغاية أكبر، ولا يتم تفضيل شريك على آخر إلا بسبب الجسد والمادة. فنشأت بسبب ذلك علاقات مقابل المادة والمال، وتوجت في عصر ازدهار المادية بالأفلام الإباحية شر ممثل لهذه الرؤية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إلا أن هذه الرؤى تختزل الإنسان بشدة؛ فتقاومها الطبيعة الإنسانية، فرأينا حتى في أكثر المجتمعات ماديةً احتقارًا لهذه النزعة، وتوجهًا للرقي بهذا الارتباط، فسعى البعض لئلا يقصر العلاقة على الجسد، بل أن يكون للنفس منها حظًا، فجاءت بعض الرؤى العاطفية لتسمو عن الجسد قليلًا.

فجعلت هذه الرؤى اللذة العاطفية مثل مشاعر حب والشوق واللهفة والاهتمام مطلوبًا لذاتها وأعلى من المطلوب الجسدي، وسعت لأن يكون للارتباط معنى جزئي، خاص بتفضيل وميل لشخص ما دون غيره، وهو تفضيل وإن لعبت المادة والجسد فيه دورًا فهما ليسا كل شيء، فقد ترفض هذه الرؤية العاطفية المال والمادة بحثًا عن الحب، وعن الشخص الذي يُقدِّر شريكه ويهتم به، وتلتزم التزامًا ما تجاه هذا الشخص دون غيره.

ولما كانت الرؤى المادية منتكسة الرؤوس في وحل الحيوانية؛ كان هذا السمو العاطفي مبهرًا لها، وهذه العواطف والمشاعر والمعاني الجزئية تبدو كالثريا بالنسبة لثرى المادة. فتم تمجيد هذه العواطف، وجعلها المعنى الوحيد في الحياة، وقامت الروايات والقصص والأفلام والأشعار تُعلي رايتها وتجعلها حقيقة الإنسانية ولا حقيقة غيرها، وأن من ينالها فقد نال السعادة القصوى، ووصل لمنتهى طلبة الطالبين، وتم بث ذلك للشباب والمراهقين في كل مكان.

الحب المبني على العاطفة

إلا أن العواطف وحدها متقلبة متغيرة، وهي عمياء قد تضل طريقها، والشخص الذي قد ترتبط به عاطفيًا فقط قد يكون به من النقائص الكثير، وقد يتغير ويخون أو يتبدل، وقد تكون له صفات سيئة فيعامل شريكه بكل سوء؛ مما يجعله في حقيقته غير مقبول لك بعد أن ينجلي غبار العاطفة. فسرعان ما تنهار قصور الخيال عند الصدمة بحقيقة الشريك الذي تم تمجيده في الوهم والخيال دون إعمال للعقل.

والارتباط الذي قام على العاطفة وحدها سرعان ما يواجه أسئلة المعنى والغاية والقيمة من الحياة كلها ومن هذا الارتباط نفسه، ويواجه تحديات الواقع الصعبة، وإن كان بلا توافق فكري تكثر المشاكل عند كل اختبار ورأي، وإن كان بلا ضابط أخلاقي فإن النفوس تطغى على بعضها، وفي وقت الشدة قد تُفاجأ بقبح النفوس، وفي وقت الراحة قد تُفاجأ بخيانتها.

الحب الأسمى

وفوق هاتين الرؤيتين القاصرتين توجد الرؤية الأسمى والأعلى، فإن كان للإنسان إدراك حسي يدرك به المادة وقصر الماديون أنفسهم عليه، وإدراك خيالي ووهمي يحرك المشاعر والعواطف وقدسه العاطفيون، فإن للإنسان إدراكًا أعلى؛ هو الإدراك العقلي، كما أن له ضميرًا، وبهما يتميز.

فالإنسان بعقله ساعٍ للمعنى في كل حركة في حياته بما فيها هذا الارتباط، لا يطيق العبث ولا يتحمله، يبحث عن سبب وجوده في هذا العالم، وعن غاية وجوده، وسبب وغاية كل فعل من أفعاله.

وهو طالب ليس فقط للسكينة الجسدية التي تكون بتفريغ الشهوة، وليس فقط للسكينة العاطفية المؤقتة التي تكون ببث العواطف؛ بل طالب فوقهما للسكينة العقلية الخاصة بإيجاد المعنى، والارتباط بمن يُشاركه المعنى والفكر فلا يتصارعان بل يسكنان معًا سكنًا عقليًا ونفسيًا.

وهو طالب للسكينة الروحية التي تكون باتساق آرائه وأفعاله مع مبدأ الوجود وغايته سبحانه، وطالب لسكينة ضميره التي تكون بتحليه بالأخلاق والفضيلة وممارستهما، والعمل في حياته وارتباطه بما يُمليه عليه هذا الضمير، وانجذابه للمتحلي بالفضيلة.

وهو طالب للقيمة؛ أن يكون لارتباطه قيمة تتجاوز المادة الدنيا، والأشخاص الضيقين، بل تتجاوز ذاته نفسها، مما يجعل لديه القدرة على تجاوز المشاكل والعقبات والعيوب قليلة القيمة في سبيل تحقيقه لقيمة أعلى.

 

الرؤية الشاملة عن الحب

إن الارتباط بين الجنسين لا يستقيم إلا برحمة ما. لكن الرحمة الحقيقية لا تتم وتكتمل إلا بأسباب؛ منها أن يؤمن كلاهما بقيمة الرحمة ومعناها، وأن تكون أفكارهما متوافقة فيرحمان بعضهما من الصراع العقيم، وأن يستمدا من مصدر الوجود الرحمة والرأفة، وأن يكون لكل منهما من الكمال الروحي والأخلاقي والفضيلة ما يمكنه من أن يرحم شريكه؛ بأن يسامحه عند الخطأ، ويرفق به عند الشدة، ويتنازل عن بعض احتياجاته رأفة به، ويتجاوز صعوبات الحياة بصبر، ويدعمه عند الاختبار، ولا يطغى عليه قدر الاستطاعة.

إن هذه الرؤية لا تنكر باقي أبعاد الإنسان؛ بل تضع الجسد في موضعه، فتحقق اللذة الحسية التي هي في الحقيقة قصيرة العمر، ومطلوبة من أجل لذات أعلى. وتضع المشاعر في موضعها، فتحقق اللذة العاطفية التي هي في الحقيقة يمكن أن يوجهها الإنسان حيث شاء. وتضع العقل والروح والضمير في موضعهما الحاكم؛ فتبحث أيضًا عن التوافق الفكري والاعتقادي، والجمال الروحي الأخلاقي. وبذلك يحقق الإنسان سعادته القصوى، وينال كل اللذات، ويجمع الحب الجسدي والعاطفي والحقيقي معًا.

فهو ألذ ارتباط، وأعذب حب، وأقوى علاقة بينهما. وهذه سنن الله في الحب.

اقرأ أيضا:

 حكايات الحاجة ” عائشة ” لتحيي في نفوس الصغار روح الحق والعدالة

صفقة القرن واتجاه العالم .. حول كرة القدم وما تشكله لنا من أهمية!

أزمة العدالة والخير و الشر.. ألن نتمتع بعالم خالي من الشرور ؟

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

أحمد عزت

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا