منطق الاستبداد وعدم الحاجة
قد تتوفر كل الشروط التي قد نظن أنها كافية لتحقق الألفة والاتحاد والتوافق و عدم الحاجة للمزيد من اسباب النجاح لكننا في النهاية نفاجأ بفشل التجربة واستحكام منطق النفور بين الأطراف وانهيار الكيان. هذا هو واقع الكثير من علاقاتنا على كافة المقاييس الشخصية والعملية والاجتماعية والدولية. فهناك وجه مشترك بين كل تلك المنظومات وهي أن الإنسان هو الوحدة الأساسية لبناء أي منها ولذلك فإن نجاح المنظومة ككل يعتمد على مدى التجانس والوفاق بين أفرادها. ولهذا نريد أن نحلل شروط الاتحاد والتوافق. ومدى تأثير التمايز والاختلاف على المستوى الفردي على تحقيق هذا الهدف على المستويات الأعلى.
مثال الفرقة الموسيقية
نضرب هنا مثالا بالفرقة الموسيقية كنوع من أنواع المنظومات الإنسانية. فالفرقة لها أعضاء فريق وقواعد مشتركة وهدف مشترك وقائد متفق عليه. لهذا يصح تصنيفها كمنظومة، أي أن لها #قواعد معينة تعمل بها وأنها تمتلك الجهوزية لإصدار وتنفيذ المهمات التي تصب في تحقيق الهدف المشترك.
الحاجة للقانون
ولننظر لبنيان الفرقة الموسيقية بالتدقيق لتحصيل الفائدة من المثال. فأولا الفرقة الموسيقية تعمل وفق #نظم والقواعد المتعارف عليها وفق ما ينظم عملها ويناسبها، وضعه الخبراء والمتخصصون في مجال المنظومة (منظومات العمل الموسيقي) ليس فقط من حيث إتقان قواعد الموسيقى والعزف على آلاتها كمهارة أساسية ولكن كإدارة عامة لشؤون الفرقة من حيث التدريب والترتيب والتوزيع للأدوار وتوفير الخدمات اللازمة لإتقان العمل الفني وعرضه للجمهور بالصورة القيمة التي تمتعنا جميعا عند حضورها أو الاستماع لها.
الحاجة للجهة المشرعة
كذلك كافة المنظومات الإنسانية فهذا التناغم بين مكوناتها ومؤلفاتها لا ينتج إلا عن #قانون ينظم عمل أفراد وأجهزة تلك المنظومة. الحاجة للقانون المنظم للمنظومة الإنسانية إذن هو الحاجة ضرورية لا يشوبها اختلاف. أما الاختلاف فيقع في توصيف الجهة المصدرة للقوانين المنظمة. على الرغم من كون الأمر بديهيا فإن تكليف أهل التخصص بالمشكلة التي تنتمي لتخصصهم هو الحل المنطقي. فلا نتوقع للموسيقيّ أن ينظم عمل الطبيب ولا للمهندس أن ينظم عمل المحامي. كل تخصص ينظمه أهل الخبرة والمعرفة في هذا التخصص.
وعلى الرغم من التسليم في هذا الأمر بأن الجهة الأنسب في وضع قانون المنظومة الإنسانية هم أهل التخصص وقع الاختلاف في تعريف أهل التخصص. فموضوع الإنسانية هو موضوع عام وكلي بدرجة يصعب معها تحديد جهة واحدة تختص بشؤونها. فالإنسانية دائما في الحاجة لمتخصص دون ميل نحو تخصص من تخصصات الإنسانية دون الآخر. بل يحتاج الأمر لإلمام شامل وعام بأمور الإنسانية على النحو الذي يسمح بتنظيم أمور الإنسانية بطريقة تمكن المجتمع من أداء وظائفه وتحقيق أهدافه.
الحاجة للرؤية والهدف
ويعود تحديد وتشخيص الجهة المشرعة في هذه الحالة للرؤية الكونية للوجود الإنساني. فمن يرى وجوده ماديا بحتا سيرجع الأمر للأكثر خبرة بأمور #المادة والتجربة ليضمن أن القانون المنظم للمجتمع يهدف لتعظيم الفوائد المادية قدر المستطاع. والمثل بالمثل. وعليه فإن تحديد الغاية والهدف يعتمد على رؤية الإنسان لنفسه ولوجوده ومنه كانت المقولة الشهير “اعرف نفسك”.
وعندما حاول الإنسان الاستدلال على هويته وحقيقة وجوده لم يجد ما يرشده سوى قدراته الذاتية. قدراته المتمثلة في استطاعته على انتزاع المعلومات من الموجودات. فكان يرتب المعلومات ليصل للمجهولات في حركة ذهنية تسمى بالتفكير. فالتفكير هو الانتقال الذهني من أمور معلومة لأمور مجهولة.
الحاجة للتفكير
فظهرت هنا حاجة الإنسان لعقله لتوصيف نفسه ووجوده (الرؤية) ليحدد هدفه من الوجود (الغاية) ومنه ينطلق نحو تحديد الوسيلة (السلوك والقانون) الذي سيسلكه لتحقيق هذا الهدف. وظهر امتحان جديد من صلب الحل الذي استقر عليه الإنسان وهو أن العقل والتفكير يقع فريسة للأهواء والرغبات. فمن يرغب في المال يجد المبرر العقلي -وإن كان فاسدا- للسرقة، والغاضب الباطش يجد المبرر لبطشه وطغيانه. فالتفكير دون معيار واضح وثابت سيكون عرضة للأهواء والزلات والنزوات مما يؤدي للتشخيص الخاطئ للرؤية والغاية والوسيلة وهذا بلا شك لن يؤدي للسعادة الحقيقية أو التناغم الحقيقي المنشود.
الحاجة للعدل
لماذا؟ لأن التفكير الخاطيء والمغيب بالأهواء لن يؤدي لتجانس المجتمع. فالتجانس في المجتمع ضروري وفق منظومة الحقوق والواجبات والتي يطلبها المجتمع كميزان عادل للمجهود المبذول والمكافأة على الإتقان والعقاب على الإهمال. وإن الفشل في تحقيق العدل يمنع التناغم، والتناغم يمنع الاتحاد، والفرقة تؤدي للتنازع، والنزاع باب الحرب والخراب. ومنه وجب أن يحاول الإنسان أن يصل لتلك الحالة من صفاء العقل من كل الرغبات والشهوات التي تحيد به عن العدل ليستنبط القوانين المنظمة بكل تجرد وحيادية دون ميل أو نفور ليتسطيع تنظيم عمل المنطومة الإنسانية كما ينبغي لها أن تكون.
الحاجة للعادل
إذن فسعادة الإنسان تعتمد على تجانس المجتمع وتجانس المجتمع يعتمد على عدالة القانون المنظم للمجتمع واستنباط القانون محتاج لإعمال العقل في الوجود للوصول للحقائق الوجودية والغائية والسلوكية للإنسان. والعقل يعمل وفق المقياس المعياري للتفكير والذي قد يشوش عليه الرغبات والأهواء. فاحتاج الفرد العام للمجتمع لتحقيق سعادته واحتاج المجتمع للعقل المتجرد الذي يستطيع الوصول للحقيقة دون تشويش فعاد الاحتياج للفرد مرة أخرى. وهذا الدور لن يكون عقيما أو باطلا لو اختلف الفرد في المقام الأول عن المقام الثاني. فالفرد المحتاج للمجتمع هو الفرد بالمعنى الأعم ولكن الفرد في الموضع الثاني هو فرد بالمعنى الأخص أي الجامع لشروط العقل والتجرد والانضباط النفسي ليستطيع توظيف عقله التوظيف السليم لاستخراج القانون المنظم للمجتمع. فكان وجود الفرد العادل شرط لتحقق العدالة النظرية والتي حين يطبقها الفرد العام والمجتمع وينتظم بنظمها ويلتزم بأوامرها تتحقق العدالة العملية والتي تصل بالإنسان للسعادة الحقيقية.
هذا هو ملخص ما ذهب له الفلاسفة المشائين أمثال سقراط وأرسطو عن النظام الاجتماعي الأمثل وكيفية استنباط العقل لشروطه التي بها يتحقق. ولهذا تعهدوا دراسة وتدريس علم المنطق ثم الفلسفة بكافة فروعها لتلامذتهم على أمل توليد ذلك العقل المتجرد الذي يقود المجتمع نحو العدالة النظرية والعملية.
الرؤية الغربية الحديثة
وعلى وتر آخر تعزف ألحان الرؤية الغربية للمجتمع والإنسان والإنسانية. وجدير بالعلم أن الفكر الغربي الحديث لم ينتج كله في مرحلة معينة بل كمثله من الأفكار هو دائم التطور والتغير وفق المتغيرات والأحداث التي تقرع بوابة الإنسانية ولذلك تختلف الرؤية في جزئياتها من مفكر لآخر ومن مكان لمكان عبر الأزمنة المختلفة. ولكن في النهاية تتفق كافة المجهودات الغربية في توضيح رؤية الإنسان لنفسه (اعرف نفسك) في أنه مرتبط بالمادة محتاج لها لكماله أيا كانت الصورة (مادية مثالية أو نفعية). في النهاية الإنسان يتكامل بالمنافع المادية ولذلك فكلما زادت سطوته وقدرته على تسخير المادة والاستفادة منها ستزداد سعادته بلا شك لأن عطشه لها سيُروى !
وبالتالي وعلى عكس الرؤية الفلسفية التي أوردناها فهم في هذه الحالة يحيلون تنظيم الكيان الإنساني للأعلم بشؤون المادة وكيفية تسخيرها. فهذا الشخص سيكيف الآلة الاجتماعية وفق هذه الغاية التكييف الذي يسمح للآلة أن تسخر المادة مما يعود على الفرد بالنفع. فالرؤية المادية تسخر المادة للفرد عن طريق تكييف المجتمع كآلة إنتاجية ضخمة تحقق هذا التسخير المادي الذي يحقق السعادة للإنسان.
التباين في الغاية
يتضح التباين بين المدرستين من حيث الغاية أوضح من باقي التمايزات وإن لم يكن أهمها. فالمدرسة الفلسفية وضعت العدالة شرطا للسعادة وإن لم تحقق المنفعة القصوى. أما المدرسة الغربية الحديثة وضعت المنفعة شرطا للسعادة وإن لم يتحقق العدل كاملا. فالأولى قد تضحي بالمكسب في مقابل العدل والعكس بالعكس. ولهذا ترى الثانية أن موت بعض الهنود الحمر هنا أو تصفية الإنكا والأزتك تصفية عرقية وحضارية هناك وإن كان ظلما شنيعا وجورا عظيما فإن هذا الظلم (غياب العدل) يعد ضروريا ويمكن قبوله كتضحية في سبيل تحقيق المنفعة العظيمة التي نتجت من ورائه.
ازدواجية المعايير
أما التمايز الثاني فهو ازدواجية المعايير. فالمنفعة عندما وضعت كمقياس أساسي في المعادلة الغربية الحديثة للسعادة، أصبح بالتالي كل ما يجلب المنفعة مطلوبا حتى وإن تناقضت أو تعاكست شروط المنفعة مع ظروف الزمان والمكان. فالمساواة أمام القانون هو أمر مطلوب لتناغم المجتمع الأبيض واستقرار المجتمع الأوروبي لكيلا يثور على الأوضاع غير المنصفة كما حدث في الثورة الفرنسية. أما في المستعمرات الإفريقية والولايات الأمريكية والهند فاستعباد الأفارقة والأمريكان الأصليين والهنود وازدراؤهم وانتهاك حقوقهم الإنسانية والقانونية مقبول لأن هذا يضمن بقاء قوة العبيد التي تدير آلة الصناعة والثورة الصناعية التي تغطي الغربي بالمرفهات والمترفات التي يُحرم منها المستضعفون تحت وطأة قهر الاستعمار.
وحتى في يومنا هذا فإن حقوق العمال أمر مطلوب طالما أنه لن يؤثر على أرباح الشركة ولكن ما إن تظهر آلة جديدة أو اختراع جديد يمكّن الشركة من الاستغناء عن آلاف العاملين وتسريحهم فإن أصحاب المال وطالبي المنفعة لن يتوانوا عن إيجاد الحجة والتبرير لتسريحهم توفيرا لأجرهم لتضاف لهوامش أرباحهم الجبارة.
عولمة الاستبداد وعدم الحاجة للدمقراطية
رغم أنّ الاعتراف بحق الشعوب في تحديد مصيرها وتقرير مستقبلها تنص عليه اللوائح والدساتير العالمية ومواثيق الأمم المتحدة -هذا الميثاق “المقدس” الذي يتشدقون به في كل حدب وصوب- لكن مايلبث هذا النص أن يختفي من الخطابات ويندر ذكره في الأخبار عندما تظهر بقعة بترول جديدة في دولة من الدول الفقيرة! فتتجه النفعية الغربية نحو استغلال شعوب هذه البلاد أيّما استغلال لضمان تعاظم استفادتها من هذه الثروات وتقليص فرصة الفقراء في الاستفادة من ثروات بلادهم إلا بأقل القليل. وفي حالة العناد أو الرفض لا تجد الحضارة الغربية أي حرج من الفتك بتلك الدول لإرغامها على القبول بتلك الشروط الاستغلالية المجحفة أو تدمير إرادة الشعب أو الشعب كله لو لزم الأمر.
إذن لا أستطيع هنا إلا استنتاج أن النظرة الغربية في حقيقتها ليست إلا تعاسة #المستضعفين في سبيل سعادة المستكبرين. على عكس النظرة الفلسفية والتي تحاول الارتقاء بالإنسان كل الإنسان بالعدل، والعمل لرخاء وسعادة الإنسان كل الإنسان. فالرؤية الغربية في وجهة نظري ليست إلا إعادة صياغة الغطرسة والاستكبار والاستغلال في قالب فلسفي أو شكل ظاهره علمي. أو هو الاستبداد باسم التفلسف والتمنطق أو مَنطقة الاستبداد.
الذهنية الاستبدادية
ولذلك لا أتعجب عندما أجد وسط النخب من يبرر الاستبداد الغربي وجرائمه. فإن تعليم وترسيخ قواعد منطق الاستبداد على أنه علم إنساني له قواعده هو ما يبرمج الأذهان على تقبل واقع المادية المرير وتحمله على أمل انتظار النفع والمكسب من ورائه. فالمنطق الإنساني السليم هو الذي ينتج عقلا إنسانيا سليما لا يستطيع أن يرى سعادته في شقاء الآخرين واستعبادهم مهما كان المكسب من وراء ذلك. أما العقل السادي المشوه الذي لا يرى تحقق المنفعة له إلا بتعاسة وشقاء أخيه الإنسان فهو لا ينتج إلا من منطق مشوه سادي يسمح بالتفكير على هذا النحو المريض. نعم الإنسانية تعاني لكنها قبل أن تعاني من الفقر والمرض فإنها تعاني من انعدام الإنسانية أصلا وذلك لأن الإنسان سمح لنفسه أن يضحي في سبيل سعادته بسعادة أخيه الإنسان. فصارت الإنسانية في ذاتها سلعة تباع وتشترى وتثمن، وأي سعادة تلك التي يمكن التحصل عليها بعد أن تفنى الإنسانية نفسها!
يقظة المستضعفين
عندما يدرك الإنسان هذا الواقع وحقيقته فإذا وجد في نفسه ما يتقبل به هذا الوضع المخزي للإنسان الذي يأكل لحم أخيه فهذه الحالة متأخرة جدا للمرض الإنساني أو اللاإنساني ويصعب علاجها. أما الذي تأبى نفسه التآلف مع هذا الواقع فستجد ملاذا في العقل والحقيقة والعدل. هذه الأنفس التوّاقة للسعادة الإنسانية الحقيقية ستجد الطريق حتما في الحكمة والمعرفة الإنسانية لتصل للعلاج.
إن بقاء المستضعفين تحت كاهل وعبء الجهل هو مفتاح تلك الآلة الاستبدادية وإن الحل الوحيد هو يقظة جموع المستضعفين من غفلة الجهل نحو نور المعرفة الساطع. فعلى عكس المتوقع ممن فقد الأمل بالعلم والمعرفة فإن المعرفة أقوى في تغيير واقع الإنسانية من أي شيء آخر. فإن اجتماع الناس حول كلمات العدل والأخوة والأخلاق يكون اجتماعا حقيقيا وإيمانيا عندما يحصلون معاني تلك الكلمات في كافة جوانب حياتهم ثم يبدأون بممارسة هذا المبادئ (الانتقال من العدالة النظرية للعدالة العملية). على الإنسان أن يعلم أنه هو في ذاته بشهواته ورغباته التي قد لا تستقيم مع مقياس العدل –هذه الذات التي تحيد عن العدل- حجاب عن العدل في المجتمع. وأن كل إنسان لو استطاع أن يطوع نفسه لانصاع للعدل بدلا من أن تحجبه، سيتحقق العدل وبنسبة ملموسة وواضحة في المجتمع. هناك فقط ستتبقى النسبة القليلة المتمثلة في المُصرّ على ظلمه وهي نسبة هينة يسهل علاجها. ولكن الغلظة كل الغلظة والحجاب كل الحجاب في الجموع الغفيرة التي بررت الظلم بالظلم و#الفساد بالفساد. هذا السلوك الاجتماعي هو ما يعظم المفسدة ويزيد من تحكم الاستكبار بالمستضعفين.
ثقافة القهر الذاتي
فينبغي أن نكون الباب الذي يتوقف عنده الظلم لا الذي ينطلق منه الظلم نحو غيرنا. نعم هي تضحية ولكنها ضرورية في المقام الأول وفي المقام الثاني فإن أي بديل عن هذا السلوك يعد ظلما جديدا يضاف للحجاب بيننا وبين العدل كما أنه ظلم وانتقام ممن لم يظلمنا بل ممن قدرنا عليه. ويعد في هذا المقام توريثا للقهر لا قهرا له. فنحن دون أن ندري نورث القهر لأجيال لا ذنب لها فيما توارثناه ولكننا لقلة حيلتنا وقصورنا وتقصيرنا عن رفع كاهل القهر عن أنفسنا وعنهم نقهرهم كما قُهرنا وهم يقهرون من بعدهم كما قُهروا لنولد ثقافة وحضارة المقهورين القاهرين أو المقهورين ذاتيا حتى وإن اختفى أو ضعف السبب الرئيسي للاستبداد و#القهر (المستبد الغربي).
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.
#بالعقل_نبدأ