مقالاتقضايا وجودية - مقالات

ألن تكون الحياة هادئة وجميلة بدون أي اختلافات؟ وكيف يمكن التعامل معها؟

هل من الممكن أن نشهد عالما بلا اختلاف؟ بلا تنوع في الآراء والمذاهب والملل والنحل، هل يمكننا في نهاية المطاف أن نجمع الإنسانية على كلمة واحدة فتنتهي مشاكلنا تلقائيًا؛ لأن مشاكلنا كلها تقريبًا تكاد تكون بسبب الاختلاف، إما الاختلاف الفكري أوالعقدي والاختلاف العرقي أوحتى الاختلاف الطبقي، هل يمكننا إذن أن نمحو كل هذه الاختلافات وبالتالي يصبح هذا العالم أفضل لأن الكل متساوي في كل شيء؟ يمكنني القول بكلمة واحدة أن الإجابة هي في نطاق الاستحالة أو على أقصى تقدير أنها بعيدة أصلًا عن المنال، ولكن هل كل الاختلاف سيئ بطبيعة الحال؟ هل من الممكن أن يكون الاختلاف إيجابيًا بشكل من الأشكال؟ وهل تكمن مشكلة الإنسانية أصلًا في الاختلاف؟ وهل العيش بدون خللاف هي الطريقة الأمثل؟ هل هذه هي لطريقة الأمثل للعيش؟ أولًا قبل الشروع في البحث حول هذه القضية علينا مناقشة قضية أخرى هامة

حرية الإنسان

هذه القضية الهامة هي ببساطة تحديد موقفنا من الإنسان ومن أفعاله وأن نحسم الجدل حول سؤال آخر هام جدًا وهو: هل الإنسان حر أم أنه مجبور على أفعاله؟

إن كنت تعتقد في الأولى فيمكنك أن تكمل القراءة معي لعلنا نصل إلى إجابات الأسئلة المطروحة في الأعلى، وإن كنت من مؤيدي الثانية فلا أعتقد يا صديقي أن هذه السطور ستهمك كثيرًا لأن النقاش حينها يكون قد انتهى قبل أن يبدأ أصلًا، إذ أنك فى هذه الحالة ترانى مجبورًا على ما أقول وتراك مجبورًا على رفضه وليس هناك مجال لإقناع أيًا منا بالعكس،

إذ أن الأمر ليس عائدًا إلينا بالأساس، وبالتالي يمكنك أن تتغاضى عن قراءة كلماتي القادمة التي أرجو من الله أن تكون موفقة في عرض ما أصبو إلى عرضه.

إذن يا صديقي لقد قررت المتابعة، لا بأس لنبحر معًا ولنحاول الإجابة على الأسئلة الأولى لهذه السطور وقد اتفقنا أنا وأنت على أن الإنسان حر في أفعاله وتصدر أفعاله عن إرادة منه بموجب إرادة حرة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إذا اتفقنا على هذا سيتبع ذلك بالضرورة استحالة امتناع الاختلاف فيما بيننا ذلك؛ لأن الإنسان على مر العصور قد تأثر بظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية مختلفة، كما أن هنالك تفاوت واضح في قدرة البشر العقلية؛ فلا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنة عقل شاب بسيط مثلي بعقل أينشتاين مثلًا فى الفيزياء فهناك تفاوت واضح في السعة العلمية والعقلية بيننا، بل يمتد الاختلاف إلى مواطن اهتمامنا، ومن هنا يجب علينا أن نسلم بأن الاختلاف قانون اجتماعي لا مفر منه ومهما اجتهد المجتمع لكبت جماح الاختلاف وطلب الطباق وكأننا كلنا مثل مجموعة تروس في آلة فإن هذا المجتمع الساعي للقولبة سيفشل في الأخير، ذلك لأنه يتحدى قانون الطبيعة وقانون الاجتماع أصلًا.

لم كان الاختلاف نقمة؟

ولكن على الرغم من الاعتراف بحرية الفرد وبالاختلاف عمومًا كواقع تاريخي وإنساني لا مفر منه، إلا أن البعض يرى في الاختلاف النقمة الكبرى على الإنسانية كما أسلفنا؛ لأن كل المآسي والحروب والمذابح حدثت بسبب الاختلافات بيننا، فالحروب العالمية مثلًا شاهدت وقوع عشرات الملايين من الضحايا في صراع قوى الغرب المختلفة حول السيطرة وإخضاع الآخرين لسلطتها، وكم سمعنا عن نشوب شجار بين الإخوة فقتل الأخ أخاه.

مثل هذه الفظائع على المستوى الفردي أوالاجتماعي العالمي تجعل القارئ العادي في حيرة من أمره، ما الحكمة من الاختلاف إذن؟ وكيف السبيل إلى الخلاص من هذه المصائب التي تلاحق المسيرة الإنسانية بسبب الاختلاف فيما بيننا؟ هل كانت المشكلة في الاختلاف ذاته؟ أم أن في الاختلاف نعمة كبرى لا يشعر بها بادئ النظر؟ .. فالاختلاف هو ما مكننا من بلوغ هذه المكانة العلمية والفكرية الرائعة وهو سبب التقدم البشري الحالي!

لم كان الاختلاف مشكلة إذن؟ هل كانت المشكلة في طريقة تعاملنا أصلا مع الاختلاف؟ وهل هناك طرق أخرى للتعامل لا تؤدي إلى الصدام والمشاحنات؟.

طرق التعامل مع الاختلاف

على مر تاريخ الإنسانية الطويل عرفت الإنسانية ثلاثة طرق أساسية في التعامل مع اختلافاتها:

الطريقة الأولى هي الطريقة التي جلبت للإنسانية الهلاك وهي سبب الصدامات والصراعات وهي طريقة الصدام مع الآخر وهي نفس الطريقة التي يعاني منها العالم العربي الآن

وهي باختصار تقوم على نبذ الآخر ورفض كل أطروحاته وإعلاء من شأن الذات وتوهم اكتساب الحقيقة المطلقة -مما قد يؤدي إلى التشكيك في قيمة الحقيقة نفسها كما سنرى فيما بعد- ولكن على أي حال هذه الطريقة هي الطريقة الأكثر شعبية بين الناس وهي الأكثر شيوعًا والصدام مع المختلف بهذه الطريقة قد يؤدي إلى الكره والتراشق وأحيانًا كثيرة القتل،

ويبدو بالبداهة الأخلاقية -الضمير- في نفس الإنسان أن هذه الطريقة مدمرة تمامًا للجنس البشري -مع أننا قد نكون من ممارسي هذه النظرية-  بشكل متفاوت بالطبع وقد نكون من محبي طلب التطابق مع الآخرين ولا نحب الاختلاف والتنوع بيننا ونرفض كل الرفض أي أطروحة أو فكرة جديدة لأنها فقط مخالفة لما نعتقد.

الطريقة الدوغماتية

هذه الطريقة -الدوغماتية- في التفكير التي تتسم بالانغلاقية كان من الطبيعي أن تنال سخط الكثيرين من المفكرين الأحرار فبدأ بعض الفلاسفة وخصوصًا فلاسفة العصر الحديث في الترويج لفكرة النسبية المعرفية والنسبية الأخلاقية أيضًا بمعنى أن الإنسان يعرف ما يبدو له، وبهذا تدخل الفلسفة الحديثة في إطار الذاتية المغلقة وتنهي فكرة الموضوعية تمامًا، وتكون الفلسفة كلها هي عبارة عن جهد ذهني مغلق، منه وإليه تعود، وبالتالي تسقط الحقيقة الموضوعية في وجه النسبية الذاتية،

ومن أعلام هذه الطريقة في التفكير هم السفسطائيون القدماء والذي كان زعيمهم بورتاجوراس يقول “إن الإنسان هو مقياس كل شيء” ويقصد هنا الإنسان الفرد، وبهذه الطريقة يكون التساوي بين الصادق والكاذب، بين القاتل والمقتول؛ لأن ما تفعله أنت وحدك مقياسه، وبالتالي مهما اختلفنا ستظل أنت على صواب وأنا أيضًا على صواب،

أو بالأحرى لا نستطيع الحكم على أيِّ منا كونه على حق أم ضلال؛ إذ أن ما تراه حقًا ربما يرى غيرك نقيضه حقًا، وهذه الطريقة التي انتشرت في الفكر الحداثي الغربي كالنار في الهشيم لاقت من القبول الكثير، فنجحت في أن تعالج المجتمع الغربي من الاستبداد الديني والطائفي، ولكن هذه الطريقة أوقعت المجتمع الغربي في مشكلة غياب المعنى وغياب القيمة مما سبب مشاكل قد تكون كبيرة بحجم الاستبداد الديني نفسه

كمشكلة النزعة العلموية في الفلسفة الحديثة والتي قصرت المعرفة على التجربة ومحاولة إخضاع العالم لسيطرة العلم – في امتثال لطرح “بيكون”- مما خلق أزمة كبيرة في الإجابة عن المعاني الأساسية في الحياة حول مبدأ الحياة؛ ومنتهاها مما أدى العالم الغربي إلى صراع الحروب العالمية والذي انتهى بالعالم الغربي إلى ما يعرف بين الناس بالعدمية لتنتهي الفلسفة إلى أسوء مراحلها التاريخية.

ولكن هل هناك طريقة أخرى في التعامل مع الاختلاف لا هي بصدامية ولا هي تسقط الحقيقة كما رأينا؟

وأقول أنه من الممكن جدًا ذلك.. من الممكن أن تكون هناك حقيقة ونختلف فيما بيننا ولا يحدث بيننا ذلك الصدام المروع ومن الممكن أن تصبح الإنسانية أفضل حالًا إذا تعلمت هذه الطريقة، لقد كانت مشكلة الصداميين الدوغماتيين هي احتكار الحقيقة عليهم وحدهم دون غيرهم وهذا خطأ، ذلك لأن الإنسان يجب عليه أن يراعي المختلف عنه،

وإن كان على خطأ من وجهة نظره ويعرف أن اعتقاداتنا وأفكارنا هي نتاج تفكيرنا الشخصي وظروفنا الاجتماعية والنفسية وكذلك تجاربنا الشخصية، كل هذه العوامل تكون الإنسان وتثقل شخصيته وفكره، ولما كان من المستحيل أن تجتمع هذه العوامل بشكل متطابق معًا في إنسان، كان من الطبيعي أن يكون هذا الإنسان مختلف عن الآخر في أشياء وموافق له في أشياء أخرى، فعلينا أن نفهم تمامًا قيمة التسامح والرحمة والحرية إذا كنا نريد الابتعاد عن الصدام المباشر والتقدم إلى الحوار البناء.

إذن فلقد كانت مشكلة الصداميين في الانغلاقية ورفض التسامح مع الغير، ولكن النسبيين لم يكونوا أفضل حالًا، لقد أعلت الفلسفة الغربية من قيمة الإنسان فوق اللازم وجعلته هو محور كل شيء – منذ عهد ديكارت – ومن بعده سقطت #الفلسفة_الغربية بين براثن النسبية المطلقة فكان انهيار القيمة والحقيقة بل وانهيار الفلسفة نفسها

لأنه كما قال الدكتور يوسف كرم “إذا لم تنطلق الفلسفة من الواقع وتنتهي إليه فهي إذن لا تستحق العناء” وذلك صحيح تمامًا لأنه إذا ما كانت الذاتية هي الأصل فينا ولا يمكن الوصول إلى حقيقة نتفق عليها فلا جدوى من البحث أصلًا وهذا ما يخالف طبيعة الإنسان الذي طور المناهج العلمية المختلفة والأفكار الفلسفية الخلابة وبالتالي النسبية أيضًا ليست حلًا للاختلاف، بل هي سقطة عظيمة للإنسانية ربما لن تستفيق منها قريبًا.

التفكير الموضوعي

علينا إذن أن نجد طريقة في التحاور تجنبنا صدامية الدوغماتى وذاتية النسبي، علينا أن نبدأ أولًا بالاعتراف بوجود واقع خارجي يقدر الإنسان على البحث في الماهيات المختلفة فيه، وأن نعترف بقدرة الإنسان على المعرفة وأن هذا العالم الموضوعي له حقيقة ثابتة يستطيع الإنسان أن يعرفها، وليس معنى هذا أن الإنسان قادر على المعرفة المطلقة دائمًا،

ولكننا نخطئ ونصيب ونحاول التعامل مع العالم بموضوعية وأن ندرس الأفكار المختلفة؛ لعلنا نجد فيها ما يقنع عقولنا ويخاطب العقل فينا، وهذه الطريقة في التفكير الموضوعي هي من قام بتدشينها أصحاب المنهج العقلي البرهاني من سقراط وأفلاطون وأرسطو وكل من حذا حذوهم في التعامل مع العالم بموضوعية فلا تسقط الحقيقة ولا ينجر الإنسان إلى الصدام مع المختلف.

يومًا ما، سيصبح عالمنا الصغير هذا أفضل وعندما تقرأ هذه الكلمات سيقال أنها من الماضي وأن الإنسانية قد تجاوزتها إلى سبل أفضل وأكثر عقلانية وتسامحًا وإلى أن يحين هذا اليوم، علينا أن نتعلم إعلاء قيم #التسامح فينا والرحمة والعدالة والحرية؛ لأن هذه القيم الأخلاقية التي تخلق مجتمعًا فاضلًا يقبل فيها المختلف بتسامح وإخاء وعلينا أن نتعلم أيضًا البحث الدءوب عن الحقيقة،

لقد كان أفلاطون يقول ” إن الجهل هو أساس كل الرذائل ” وأقول لقد حان الوقت لكي ننفض عن أنفسنا غبار الجهل وأن نلقي بأنفسنا إلى

رحاب العلم والمعرفة، حينها فقط سيمكننا الحديث عن مجتمع يستطيع التعامل مع التعددية ويستطيع الاستفادة من اختلاف أبنائه.

اقرأ أيضا:

الحرية الشخصية بين التحرر والاستعباد
اين اجد أجابة الاسئلة المصيرية
القوى الكامنة بالانسان

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

أحمد رمضان

طالب بكلية الهندسة – جامعة المنصورة
كاتب حر
باحث ومحاضر بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالمنصورة