أخيرا تحقق حلمي وأصبحت مصورا مشهورا! حياة ما وراء الصور
“أخيرًا تحقق حلمي”.قالها -وهو مبتهج كما لم يكن من قبل- بعد أن تم قبوله ضمن مجموعة من المصورين لمجلة شهيرةٍ جدًا، الآن فقط سأتمكن من التجوال حول العالم حاملا الكاميرا ألتقط أروع الصور وأجرأها، أقساها حزنًا وألمًا، وأكثرها بهجةً وسعادة، الآن يبدو حلمي ممكنا ويوما ما سأصبح أشهر المصورين حول العالم.
في طريق عودته للبيت أخذ يتذكر أول مرة رأى فيها مصورًا يحمل كاميرا ويطوف ليصور كل ما يصادفه في الطريق، كانت هيئته غريبة: شعر مجعد، ملابس صيفية على الرغم من الجو البارد، وزجاجة المياه في يده، لم يكن من الصعب على فتى في الخامسة عشر من عمره أن يعرف أن هذا المصور أجنبي، فهذه هي الصورة المعتادة التي روجتها الأفلام العربية عن شكل السائحين الأجانب، كنت حينها ألعب مع رفاقي في أحد شوارع الحي الجانبية، وما أن رأيته حتى انبهرت به ورحت أتتبعه أينما ذهب، حتى أصبحت هوايتي الجديدة هي مراقبته فيما يفعل، وأصبحنا أصدقاء بمرور الوقت، أنا أدله على الأماكن الأثرية القديمة والتي أعرف تفاصيلها كما أعرف كف يدي، وفي المقابل كان يحكي لي عن مغامراته وأسفاره، ويجيب عن أسئلتي الكثيرة عن التصوير، والكاميرا كيف يمكن استعمالها، وما هو سر التصوير، كانت أيام جميلة، تعلمت منه الكثير، وتبلور حلمي في ذهني، نعم … أريد أن أكون مصورًا محترفًا.
بدأت العمل كمصور وبدأت رحلتي لتحقيق حلمي، كنت مجتهدا دؤوبا، أفعل ما يطلب مني دون أي نقاش، سافرت شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، التقطت آلاف الصور. مواضيع متنوعة، وبلاد مختلفة، وقضايا متباينة، أناس كثيرون، أصدقاء وخصوم، أطفال وشيوخ، نساء ورجال، كانت تراودني أسئلة كثيرة تجاه ما أراه بعيني، وتصوره عدسة كاميرتي، ولكني كنت أتظاهر بعدم سماع هذه التساؤلات ولم أسمح لنفسي سوى بمزيد من بذل الجهد حتى أحقق حلمي، حتى أنني كنت ألفق أحيانا بعض الصور غير الصحيحة فقط لتحدث ضجة وجدالا، ولم لا طالما في النهاية سيلمع اسمي، ويزداد معجبيّ، وكلها خطوات تقربني من حلمي والذي أرى أنه قارب على التحقق.
تنقلت بين عدة مجلات وصحف مشهورة، واستقر بي المقام بإحداها، كانت جريدة عالمية مرموقة، وكنت من أفضل المصورين فيها لي مكانتي وعملي يلقى إعجاب الجميع، وفي يوم ما لم يبدُ لي مختلفًا عن أي يوم مضى، وبينما كنت أصور أحد الأحداث المهمة في إحدى الدول الأجنبية، إذا بانفجار شديد يحدث في مكان الحدث، وفي ثوانٍ معدودة انتشر الذعر والصراخ وراح الجميع يجري بعيدًا عن مكان الانفجار فارًا بحياته، جريت مسرعًا لا أعرف بأي اتجاه أذهب، كان كل ما يشغل تفكيري أن اختبئ في مكان آمن أستطيع من خلاله التصوير فيكون لي السبق في هذا الحادث المثير، وجدت أحد البيوت القديمة فجريت واختبأت خلف بوابته، رفعت كاميرتي وبدأت أصور، لكن لم تمر دقائق قليلة حتى سمعت صوت حركة من خلفي هممت لألتفت ولكني لم أستطع فقد هجم علي أحدهم من الخلف وحاول أن يأخذ كاميرتي، قاومت بما أوتيت من قوة ولكني فشلت بعد أن تلقيت ضربة قوية على رأسي فقدت على إثرها وعيي، واستفقت لأجدني في غرفة داخل أحد المستشفيات وحيدًا مستلقيًا على سرير والذي قيدت يداي بأحد جوانبه .
كانت أيام شديدة الصعوبة، لم أتصور في حياتي كلها أني سأعيشها، تحقيقات من الشرطة واتهامها لي بالانضمام لإحدى الجماعات الإرهابية المسؤولة عن الحادث، فشلت كل محاولاتي لإقناعهم بأنني مصور معروف أعمل لدى كبرى الصحف في العالم، وبالرغم من قدرتهم على التأكد مما أقول إلا أني بقيت فترة خلف قبضان السجن في انتظار نتيجة التحقيقات والتي لا أعلم إلى أي نتيجة ستصل وفي أي وقت ستنتهي.
إنه عالم آخر لا يمر فيه الوقت بل إنه لا قيمة للوقت بالداخل فأنا لم أعد أعرف اليوم من غدٍ، كنت محبوسا في غرفة مظلمة إلا من ضوء بسيط يأتي من الخارج، جلست في أحد أركانها أفكر في حياتي وفوجئت أنني لأول مرة أفكر فيما مضى من عمري وأفعالي، سنوات طويلة مرت منذ أن كنت ذلك الفتى البسيط ذي الخمسة عشر عاما وحتى أصبحت أحد أهم وأشهر المصورين، وأخذت أتذكر الصور التي التقطتها، لا؛ بل الوجوه والمعاني وراء هذه الصور ما بين ابتسامات الأحبة وبين دموع الأطفال المشردين إلى الرعب الذي يملأ الهواء بعد أن هدمت المدينة على رؤوس أهلها فخرجوا هائمين لا يجدون مأوى ولا يعرفون إلى أين الطريق… كنت أصور كل ذلك بعينين مفتوحة ولكنها لا ترى، وعدسات ثاقبة ولكنها قاسية، وعقل نشيط ولكنه غافل، وقلب طموح ولكنه لا يشعر! فلم أتوقف ثانية لأرى ما خلف هذه الصور، الإنسان، معاناته، أفراحه، والسبل التي يسلكها في الحياة! تعلمت الكثير وعرفت الكثير ولكني لم أفعل شيء بما علمته! ألا تقتضي المزيد من المعرفة المزيد من الفهم والعمل والبذل؟ سألت نفسي ولكنها لم تُجب!! وعايشت الكثير من المواقف وتعاملت مع مختلف أنواع البشر ولكني لم أفرق يوما بين اليد التي كانت تمتد لي بالمساعدة وبين اليد التي كانت تمتد بالإساءة فلم أكن أكترث إلا بما يحقق مصلحتي ويقربني من تحقيق الشهرة والثروة، وبعد كل هذا العمر وما فيه من زخم وجدت أنني لم أتوقف ثانية لأحاسب نفسي وأسألها لماذا؟؟ فقد انشغلت دوما في حياتي بـ (كيف) ؟؟ كيف أكون مصورًا مشهورًا، كيف أفوز بهذه الفرصة، كيف؟ كيف حتى أنني وبعد طول الرحلة وعناء الطريق لم أسأل نفسي يوما لماذا أردت أن أكون مصورًا؟ ما الغاية وراء كوني مصورا؟ ما الذي سأقدمه لنفسي وللعالم؟ أسئلة كثيرة هالني أنني لأول مرة أسألها لنفسي!!
والآن وبعد مرور عدة أشهر على هذه المحنة والتي قضيتها مسافرا متأملا لنفسي وللكون من حولي اكتشفت أنها كانت منحة من الله، خرجت منها وأنا أشعر أني شخص مختلف ينظر من وراء كاميرته فيرى ما لم يكن يراه بأم عينيه، وينظر بعينيه إلى داخله ليجد فراغا كبيرا وأسئلة بلا إجابة وإحساسا بالتيه وفقدانا للاتجاه والغاية من الحياة، ولكن ثمة شيء جديد تولد من هذه #التجربة، وهو الإصرار على التغيير، لا بد أن أعرف الغاية قبل أن أقدم على الحركة والفعل، غاية وجودي كإنسان في هذه الحياة، فلم يعد ممكنا أن استمر كما كنت، أفعل أي وكل شيء لتحقيق غاية واحدة فقط، هي المنفعة المادية والتي كنت أظنها هي الغاية الأسمى من الحياة، لكني استفقت لأجد أنني حققت هذه الغاية، وفقدت في المقابل نفسي! والآن سوف أبدأ رحلتي الجديدة للتغيير من نفسي ومبادئي ومعتقداتي و حلمي في الحياة، الحياة التي لا يمكن أن تستقيم دون وجود #غاية نبيلة يعيش الإنسان من أجلها. أعلم إنه كلما كانت الغاية نبيلة عظيمة كان الحمل عظيما والطريق صعبًا، ولكن ألا تستحق الغايات العالية الجهد والتعب؟! ألا تتسبب بكشف آلاف المعاني العادلة الجميلة في الحياة؟! “نعم!” أجابت نفسي بكل يقين وقد ارتسمت أمامها بداية الطريق ولم تبق إلا خطوة البداية، حملت كاميرتي وفي عقلي أول شيء سأفعله على طريق التغيير، ففي مقابل كل صورة التقطتها ولم أقرأ ما تحمله من معالم الحياة، سأصور عشرات الصور التي تحمل في طياتها نسائم الحقيقة، وتنقل بعض لقطات الحياة في كل أنحاء العالم، لا بدّ أن تحمل صوري الحقيقة للعالم، لا بدّ أن تقدم الصدق بين تفاصيلها، لا الزيف، لا بدّ أن تغير للأفضل، لا بدّ أن تُعلِم من لا يعلم، وتكشف الخبايا المراد طمسها، هكذا فقط أستطيع أن أكمل الطريق والذي لا بدّ أن يسبق كل فعلٍ فيه سؤالٌ عن الغاية والبوصلة والاتجاه .,نعم فقد تغير حلمي كثيرا
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.
#بالعقل_نبدأ