إصداراتمقالاتمنطق ومعرفة - مقالات

إلى اليمين أم إلى اليسار؟ بل في المنتصف, هل هذا هو الحياد؟

 

الحياد في اللغة مادة حيد و مصدر حايد، والحياد لغويًا هو عدم الميل إلى أي طرف من أطراف الخصومة، وحايد الشخص تعني جانبه أو مال عنه، وحايده أي كف عن خصومته، وحايد الأمر أي اجتنبه ولم يتدخل فيه.

وينتشر مصطلح الحياد حاليًا ويستعمل خطئًا للدلالة على التعامل بموضوعية مع القضايا والمواقف المختلفة، أو ليتم التعبير عن الوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف دون الميل لأي طرف أو أي فكرة ظنًا أن ذلك هو السبيل الوحيد للوصول لحقيقة الأمر، أو على الأقل للتحلي بنظرة عادلة غير متحيزة تحيز باطل.

وبالنظر للإنسان ودوافع ومحركات سلوكه بشكل عام ومنشأ قراراته أو مواقفه، ينطلق الإنسان نحو سلوك أو موقف معين بناءًا على فكرة أو إدراك أو معلومة أو معرفة معينة. فمثلًا الذي يُشخص سعادته في الرفاهية المادية يسعى لكسب المزيد من الأموال، ويرتب حياته وقراراته حسب ما يؤدي به إلى تحقيق مزيد من الثروة المادية، والذي يعتقد في وجود إله يمتثل لأوامره وينتهي بنواهيه، والذي يعتقد أن في التعلم خيرًا ما؛ يسعى لتحصيل العلم ويبذل فيه وقتًا وجهدًا.. وغيرها من الأمثلة التي توضح أن كل سلوك منشأه فكرة معينة.

ومنطقيًا ينقسم الإدراك العقلي إلى مرتبتين: مرتبة التصور و مرتبة التصديق.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في التصور يتعرف الإنسان على حقيقة الشيء ويفهم معناه مثل أن يفهم معنى العدل بأنه إعطاء كل ذي حق حقه، وأن يفهم معنى الحق بأنه المطابق للواقع، وأن يفهم معنى الإله ومعنى الفلسفة وغيرها من المفاهيم والأشياء التي يتعرض لها الإنسان وهو في هذه المرتبة. فهو لكي يتمكن من تصور الأشياء تصورًا صحيحًا يحتاج لتعريفها تعريفًا صحيحًا يحكي عن حقيقة الشيء فعلًا وعما يمثله في الواقع.

وفي التصديق يحكم الإنسان على الشيء بعد تصور وفهم معناه؛ بأن يُثبت له شيئًا أو ينفيه عنه، مثل أن يحكم بأن العدل حسن وأن الظلم قبيح وبأن الإله موجود أو غير موجود، وبأن السعادة في جلب المال أو في تحصيل العلم أو غيرهما، وبأن الزواج في سن معينة أفضل من سن آخر، وبأن الليبرالية فلسفة سليمة أو غير سليمة، وبأن التصرف الكذائي في موقف معين أفضل من غيره أو أسوأ، وبأن فلانًا قد أصاب في موقف معين أو أخطأ، وبأن هذا المكان آمن يمكنه السكن فيه أو السماح لذويه بالذهاب إليه أو اللعب فيه مثلًا، وغيرها الكثير والكثير من الأحكام التي يصدرها الإنسان على الأشياء والمفاهيم أو على نفسه والآخرين!

وهو في كل حكم يرجح طرف على طرف ويميل لطرف على حساب طرف؛ فالذي حكم بحسن العدل مال لإثبات الحسن للعدل على حساب نفيه عنه، والذي حكم على تصرف بأنه أفضل من غيره مال لإثبات الأفضلية للتصرف على نفيه عنه.

والإنسان في هذه المرتبة يحتاج إلى دليل صحيح لكي يتمكن من الحكم حكمًا صحيحًا.

ويبدو واضحًا أن الإنسان في حياته يمارس هاتين العمليتين باستمرار، فهو يتعرض لمواقف وأشياء كثيرة يفهم معناها ثم يرجح حكمًا معينًا حولها يكون دافعه لسلوك معين في حياته، بل إن بعض الأحكام العامة بديهية لا يمكن للإنسان إنكارها مثل حكمه باستحالة أن يكون الشيء موجود وغير موجود في نفس الوقت وفي نفس المكان ومن نفس الجهة، وحكمه بأن كل مسبب لابد له من سبب.

مما يعني أن الإنسان لا يمكنه أبدًا أن يكون محايدًا حيادًا مطلقًا بمعنى ألا يُصدر أي حكم أو أي ترجيح أبدًا؛ فهو حتى وإن لم يَقُم بالحكم على أي مفهوم أو قضية معينة، لا يمكنه إنكار القضايا والأحكام البديهية وأولها استحالة اجتماع النقيضين أو استحالة أن يكون الشيء موجود وغير موجود في نفس الوقت ونفس المكان ومن نفس الجهة، فضلًا عن أن ذلك يعني شلل تام في حركته أو سلوكه!

ولكن استعمال مصطلح الحياد حاليًا يخلط بينه وبين التجرد أو #الموضوعية، ويساوي بين الحكم أو الترجيح أو الانتماء والتعصب.

لكن هناك فرق بين هذه المفاهيم؛ فالتجرد هو النظر والتأمل والحكم على المضمون أو موضوع القضية المطروحة من حيث صحتها أو خطأها في ذاتها، وليس #الحكم عليها من خلال الاتفاق أو الاختلاف مع قائلها أو انطلاقًا من دوافع معينة كرغبة في مكافأة ما أو الخوف من عقاب ما، وهو يتطلب تسليم للحق فقط أيًا كان قائله أو مصدره، والوصول لحقيقة الأمر سواء كان قضية معينة أو موقف معين يتطلب فهمها فهماً صحيحًا أو تكوين تصور سليم، ثم الحكم عليها حكمًا صحيحًا مبنيًا على دليل يقيني. والتجرد هو ما يحتاج إليه الإنسان حين ينظر في قضية ما أو فكرة مطروحة، وبه يمكن للإنسان الوصول إلى حكم سليم مما يعني أنه ليس الحياد.

أما عن توهم التشابه والتساوي بين الانتماء و التعصب، فواقعًا لا يمكن للإنسان ألا يكون منتميًا لأي تجمع أو أن يعيش بمفرده في الحياد تمامًا فهو كائن اجتماعي يحتاج لغيره ويحتاجونه! فهو يحتاج لكي يسد نواقص جسده لمن يساعده في توفير مأكله ومشربه وملبسه ووسائل التنقل والمسكن ويحتاج للمنكح وغير ذلك، ولكي يسد جوع روحه يحتاج لمن يعلمه علمًا نافعًا ويرشده لأساليب التربية الصحيحة وجميل الخلق، ويحتاج لمجتمع إنساني يمارس فيه إنسانيته تلك! فضلًا عن احتياجه للتقدير والحب والاحترام. كذلك يحتاج لغيره من بني جنسه ليتعاونوا على آداء المهمات والسعي في سبيل الغايات.

فهو دومًا منتمي بدايةً من أسرته، وغيرها من المجموعات أو الجماعات.

لكن انتماء الإنسان لتجمع معين لا يفرض عليه أن يعطل عقله تمامًا، أو أن ينقاد لذلك التجمع انقيادًا أعمى يدفعه للتعصب لقرارته وآرائه تعصبًا يَرفض الآخر وإن كان محقًا! هذا الانقياد الأعمى ليس من لوازم الانتماء؛ إنما هو خطأ يقع فيه الإنسان إذا كان انتماؤه مبنيًا على الحب والانجذاب والانبهار غير الواقعي لا على أساس التفكير السليم الذي يُشخص الحق فيعرف أهله؛ فيكون انتماء الإنسان الحقيقي للحق أيًا كان مصدره.

لذلك واقعًا الإنسان دومًا منتمي! ودومًا غير محايد # حياد مطلق!

ودعوات اللا- انتماء ليست هي صمام الأمان الذي يُمكِّن الإنسان من أن يتحلى بنظرة عادلة غير متحيزة لباطل؛ لأنها دعوات غير واقعية!

التجرد والتسليم للحق بعد المقدرة على تشخيصه تشخيصًا سليمًا هو الذي يهب الإنسان تلك النظرة فقط. بل إن الحياد بمعنى الوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف -في معظم الأحيان- يكون فعلًا غير أخلاقي يساوي بين الحق والباطل والضحية والجلاد! وهذا لا يمنع أن تُعرَض للإنسان بعض القضايا أو المواقف التي لا يمكنه فيها ترجيح حكم على حكم؛ لعدم كفاية معرفته أو إلمامه بها وهو ما يعرف بالشك. حينها يكون عدم ترجيحه مدفوعًا برغبته في الوصول لحكم صحيح بعد فهم الموقف فهمًا صحيحًا وليس المقصود عدم الترجيح في ذاته

.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

 #بالعقل_نبدأ

داليا السيد

طبيبة بشرية

كاتبة حرة

باحثة في مجال التنمية العقلية والاستغراب بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

حاصلة على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية