إصداراتمقالات

شرنقة التدين وفراشة الإرهاب (1)

الظلم الاجتماعي كمقدمة للتطرف

لا يجب أن نبحث بعيدا في الأمثلة الفاشية والمشهورة تاريخيا. فبمرورنا فقط في بعض الشوارع أو بجلوسنا على بعض المقاهي قد نجد ضالتنا بوفرة. فالظلم الاجتماعي وحرمان الشعوب من حق الحياة الإنسانية الكريمة بات هو الوباء والمرض الحقيقي للمجتمعات والذي يمكن اعتباره أساس ومصدر كل الأمراض النفسية والجسدية الأخرى بصورة مباشرة أو غير مباشرة. فالإنسان بطبيعته كجسد له احتياجات مادية أساسية تضمن بقاءه وله من الاحتياجات المعنوية والعقلية ما يضمن بها تألق وظهور ملكاته وقدراته الفكرية في الواقع الخارجي وتأثره بها. أما #الظلم_الاجتماعي فيتلخص في منع تلبية حاجات الإنسان عامة، ليس قصورا ولكن تقصيرا في التوزيع العادل للحقوق والواجبات. هذه المظلوميات هي في الواقع شروخ في عَمَد المجتمع والتي مهما كانت صغيرة وبسيطة فهي لا تزال صدوع وضعف في البنيان الاجتماعي. وهذه الشروخ لها القدرة أن تتمدد وتتوسع في البدن لتُكوّن فجوات وكسور كبيرة تؤدي في النهاية للفتك بالمجتمع. كما السرطان الذي يبدأ ببضع خلايا بسيطة العدد ولكن مع الإهمال وتأخر العلاج تنمو في العدد والقوة بما يمكنها من الفتك بالحياة.

 

البحث عن الذات

ندما يشعر المرء بالظلم الاجتماعي الواقع عليه ويصل معه لدرجة تفوق التحمل، يشعر المرء بخيانة المجتمع للعهد والاتفاق الذي بُرِمَ بين الفرد والمجتمع كمقدمة لتأسيس المجتمع. هذا العهد (العدالة) الذي تم تدنيسه يُولّد داخل الإنسان الشعور بالغضب والحنق على المجتمع اللامبالي بدرجة توصل الفرد لاستنتاج واحد “على هذه الطاقة الغضبية أن تخرج في شيء ما وإلا سأنفجر داخليا”. هنا تبدأ مرحلة البحث عن منفذ لهذه الطاقة. ولا يمكن أن نُعمّم بأن نقول أن كل المنافذ تكون مضرة للمجتمع، لكن في الغالب ما تكون متطرفة بطبيعتها. فقد يختار الإنسان بين كثير من منحدرات التشرنق أو منافذ خروج الغضب. فهناك منفذ الجنون وفساد العقل والذي هو في صورة من صورة يأس العقل من التعامل مع الغضب المكبوت مما أدى لإلغائه وبطلان عمله بالصورة التي تُفقد الإنسان إنسانيته وناطقيته التي تميزه عن غيره من الكائنات.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وفي منحى آخر هناك زقاق المخدرات والمُغيِّبات والتي تُغلِّب الشهوة والنشوة على الغضب والعقل بحيث يدخل الإنسان في حالة من الغفلة والانعزال عن كل ما يؤرق راحته ويستنفر غضبه. ولكن ما أن يزول أثر المُغيِّبات حتى يستفيق على واقع أسود مأساوي أشد وطأة على قلبه مما كان قبل الدخول في مرحلة النشوة والانفصال مما يضطره للهروب من واقعه الأليم بمزيد من الجرعات الأكثر كثافة والتي تبقيه في تلك الحالة التي تريحه وتبقيه في الغفلة.

وهناك شرنقات أو أزقة أخرى للهروب من واقع الظلم الاجتماعي كالبلطجة والإجرام- وهي ليست لعلاج ظلم الحياة بالضرورة ولكن كمنفذ للانتقام من المجتمع – أو من خلال محاولة الظهور بتبنى الصيحات الجديدة وإدمانها كتنفيس عن أزمة الشعور بالإهمال وبأنمطة الحياة الشاذة والغير مقبولة اجتماعيا في محاولة للتفرد والتميز عن المجتمع ولو بالقبيح والمنبوذ اجتماعيا.

 

شرنقة الدين

أما الشرنقة الأكثر خطورة في شرنقات #التطرف والانعزال هي شرنقة التدين. ولا أقول هنا الدين لأن الدين في واقعه هو فلسفة إلٰهية تسعى نحو ترسيخ العدل الاجتماعي والإنساني ولا يعتبر بأي صورة من الصور مرتعا أو سترا للتطرف الفكري والإرهاب. فالتدين هو مجموعة المعتقدات والعقائد والسلوكيات التي يعتنقها ويقوم بها الإنسان على أساس أنها من الدين أو أنها هي الدين. هذا التدين إما أن يكون مطابقا لواقع الدين غير منحرفا عنه فيتوافق التدين مع الدين ويحقق العدالة الاجتماعية ولو نظريا (العملي مع النظري)، أو أن يكون شاذا خارجا عليه متحوصلا فيه كالمرض متخدرا بخدره ولكنه في حقيقته أبعد ما يكون عن الدين في واقع أمره.

فالإنسان عندما يمر بهذا الزقاق؛ زقاق #التدين ليتبضع ويشتري الأفكار والأيديولوجيات التي سَتُسكِّن ألمه أو ستمكنه من تحقيق انتقامه من المجتمع الذي ظلمه. فهو عند مروره بهذا السوق الفكري لن يشتري إلا ما يجد فيه المُبرّر والقوة الشرعية التي تُخوّله من تحقيق أهدافه. وهو كالمقاتل الذي إذا بحث عن سلاح سيبحث في كل أنواع الأسلحة عن أشدها وطأة وأكثرها قسوة وشدة وأغلظها عقوبة وأوسعها تنفيسا عن غضبه وحقده. ثم بعد أن يجد ضالته في سوق التدين سيبحث عن المصداقية أو الشرعية التي تُخوّله من تحويل هذا المحتوى التطرفي الانتقامي لواقع عملي. فضالته الحقيقية وهدفه ليس قيام الدين أو تأسيس دولة الله أو الإسلام أو المسيحية أو الصليبية كما يدعي (محاكم التفتيش، مذابح الصليبيين في المسلمين، داعش وما أدراك ما داعش، طالبان وجرائمها في حق الأبرياء والمدنيين في مختلف الدول والمجتمعات). هدفه الحقيقي هو الانتقام فإذا اتفق الدين أو “نسخة” الدين التي بين يديه مع مآربه الانتقامية؛ فسوف يتبنى هذه “النسخة” ويعتمدها في شرعنة أساليبه الدموية. أما إذا لم يجد فيها هدفه أو وجدها ضعيفة؛ فهو إما سيتركها أو سيحاربها ويدمرها كـ”نسخة” فاسدة عن الدين في حكمه وسيبحث عن غيرها مما يرضي شغفه. أو سيخترع “نسخة” جديدة على هواه ومزاجه تحقق أهدافه كما يحلو له بعد أن يؤسس لها تاريخيا على أساس وَاهٍ ومنحرف ومنبوذ ليحقق أطماعه الإجرامية.

 

الفراشة الإرهابية

وبعد أن تحقق مرحلة الشرنقة أهدافها المرحلية في تكوين المنهج والشرعية، تخرج من شرنقة التطرف الديني فراشة #الإرهاب. هذه الفراشة المجنحة بجناحي المنهج والشرعية تطير في المجتمع لتبحث عن المشروعية والمشروع. فالإنسان المتطرف الآن مُسلح فكريا بالأفكار التي تسمح له باستقطاب أمثاله من المقهورين اجتماعيا ليستخدمهم كزبانية وأعوان في تحقيق مشروعه. ولا مانع أو حائل من استخدام ضعيف العقل والنفس والذي لا يريد إلا البحث عن صور الدين الحقيقية بعد إقناعه بالحيل والنسخ المزورة عن الدين والتاريخ أن “النسخة” الإرهابية أو المتطرفة هي النسخة الحقيقية. لقد تكون الآن جيش الفتح أو جيش الصليبيين الذي سينتقم لآلام الدين وعذابه ويعيد المجد للكهنة والكهنوت. ولتستعد المجتمعات لتتجرع نصيبها من الانتقام المتطرف من ظلمها الاجتماعي.

 

الراعي الرسمي للإرهاب

دعونا لا ننجرف في الوصف وننفصل عن الواقع. فالتطرف والإرهاب يخرج كظاهرة اجتماعية تحاول الفتك بالجسد الاجتماعي كتطور طبيعي للشرخ الذي بدأه الظلم الاجتماعي في البداية والذي كان سببه جشع الطبقات الأرستقراطية وتكريسها للظلم والقمع الاجتماعي وإهمالها لقاعدة التوزيع العادل للحقوق والواجبات والتي هي القاعدة الأساسية لقوام المجتمع الفاضل والحضاري.

علينا هنا أن نسأل سؤال: من الذي سيرعى النموذج المتطرف ويخرجه من طور التسليح الفكري والعددي للتسليح العتادي والعسكري الحقيقي؟ بالتأكيد لن يكون النظام الاجتماعي والسياسي الذي خرج منه التطرف. فمن الحمق أن يسلح الإنسان عدوه.. صحيح؟ وسنتفق هنا أن أيًّا من كان سيسلح التطرف ويخرجه للطور الجديد هو عدو آخر للمجتمع. قد لا يكون يصبو نحو نفس الأهداف التي يسعى لها التطرف. ولكن القواعد النفعية تجمع بين الأطراف المتباينة والمختلفة إذا وُجِد العدو المشترك. فما أن تظهر الشروخ الفكرية (التطرف) في المجتمع حتى يسعى نحو إنمائها ورعايتها أعداء المجتمع الخارجيين تحت أي مسمى يحمل مغالطات فكرية وعقائدية كثيرة (أقليات، حرية، دفاع عن النفس أو أي دافع آخر مخترع). هذه المغالطات مع وجود البلبلة الفكرية والسيولة الثقافية قد لا تجد الحائط الدفاعي القوي الذي يحمي المجتمع منها.

وهنا يتحول التطرف في واقعه من خدمة مآرب المتطرفين أنفسهم إلى لعبة وآداة في يد أعداء المجتمع الخارجيين. فهو من خلال التمويل والإمدادات الموجهة والمهندسة يتم التلاعب بالكفتين؛ كفة التطرف في مقابل كفة النظام القائم. ومن السذاجة الاعتقاد بأن الهدف هو إنهاء الصراع وحسمه. إن هذه هي الفرصة التي انتظرها العدو الغربي المتغطرس لسنوات وخطط لها. فالهدف الآن هو استثمار تلك الحالة الجنونية بغض النظر عن الطائفة أو الدين أو الإثنية. فالغرب الاستعماري لا يعرف تلك الفُروقات ولا تهمّه. هو يُصنف الفئات بتصنيف واحد فقط. الثري والفقير أو من يمتلك الموارد ومن لا يمتلكها. فالثري الذي يمتلك الزيت الخام والمعادن لا يجد الغرب أي مانع من تسويقه دعائيًا ودعمه لوجستيًا وعسكريًا وسياسيًا في مقابل استنفاذ موارده وثرواته. وكأنه مزاد علني لبيع المجتمعات والثروات الطبيعية والتي هي حق للشعوب، فتتحول تلك الثروات من باب للنعمة والرخاء إلى باب من العذاب والخراب.

إن هذه الصفقة هي أفضل صفقة حصل عليها الغرب المتغطرس. فاستخراج هذه الثروات بالصورة القانونية والسلمية كان سيكلفه أكثر وسيُدخله في إشكاليات وتحدي شريف مع المنافسين، والعرض الأفضل اقتصاديًا وتشغيليًا وسياسيًا. أما الآن فمنطق القوة هو ما سيحكم. من يملك البندقية الأكبر هو من يُقرر ما سيحدث.

 

تعميم النموذج المتطرف

أما الهدف الأيديولوجي لهذا الصراع فهو أعظم وأثمن. فلقد وجد الغرب ضالته في تعميم النموذج المتطرف على الفكر والدين عند المجتمعات التي تعاني من التطرف الذي بدأ بالظلم الاجتماعي والاستكبار كسبب،ونَما وتَطور عسكريًا بفضل الاستكبار الاستعماري الغربي؛ ليحقق فوائد مادية للغرب باستنزاف مقدرات وثروات هذه المجتمعات، ثم يستخدمه ويهاجم به الدين والثقافة الاجتماعية لهذه الشعوب كسلاح أيديولوجي وفكري؛ فيُلغي هُوية هذا المجتمع تمامًا ويُشوهها.

يتبع..

#بالعقل_نبدأ

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.