إصداراتمقالات

فيلم حياة باى

يمكننا أن نشاهد أي فيلم بأكثر من طريقة، هناك من يشاهد الفيلم بالطريقة التقليدية الشائعة عند أكثر الناس، ذلك بمتابعة الأحداث والشخصيات كما هي في الظاهر، وحينها يكون الفيلم ممتعًا بقدر ما يثيره داخلنا من التشويق أو الضحك أو الشجن أو الخيال، حسب نوع الفيلم ومزاج المشاهد.
هنا التفاصيل الجزئية للفيلم تكون لها الأهمية القصوى، من حيث الكلمات و”القفشات” والملابس والديكور، فهي ما تخطف الأبصار وتشد الحواس …. فالمشاهد هنا في حقيقة الأمر هي الحواس
وهناك من يشاهد الفيلم وهو يبحث عن “الرسالة” الكامنة فيه … ما يريد الفيلم أن يقوله ويخاطب المشاهد به
وهنا تفقد الجزئيات شديدة التفصيل أهميتها، وتبرز الأحداث الإجمالية واللقطات الفارقة مع أجزاء الحوار المفصلية، وهي بطبيعتها قليلة متفرقة متخفية بين جزئيات الفيلم
والرسالة الكامنة بأحداثها الإجمالية ولقطاتها الفارقة وكلماتها المفصلية في حقيقتها تغازل العقل لا الحواس، فالبحث عنها يكون به لا بالعين والبصر
بالتالي، عندما نشاهد فيلم “حياة باي” بعقولنا لا حواسنا، بنية فهم وتحليل الرسالة الكامنة فيه، وجب علينا أولًا أن نحدد تلك الأحداث الإجمالية وندع الحشو من التفاصيل
ساعتها سنجد “باي”، الشاب الهندي الباحث عن الحقيقة، الذي اعتنق ثلاث أديان في نفس الوقت (الهندوسية، والمسيحية، والإسلام) …. بالطبع إن نظرنا لتلك “التفصيلة” ربما نستخف بها، إذ أن المعتقد في تلك الأديان مختلف بما يستحيل جمعهم في نفس الوقت
لكن عين العقل قد تهمس لنا أن هذة التفصيلة قد تعنى أن “روح” الدين قد تمثل في “باي” … فيكون بذا رمزا لما تريد الأديان أن تهمس به في أذُن بني الإنسان
ثم ينطلق “باي” في رحلة في قارب مبحرًا مع آخرين، لتهب عاصفة تهلك الجميع ما عدا “باي” ونمر متوحش، تسمى باسم إنسان “باركر”
هنا لقطة هامة … “باي” ممثلًا “الروح” النقية المتطلعة إلى الحقيقة، مع “جسد” متوحش غريزي لا يعقل
يحاول “باي” في جزء كبير من الفيلم أن يتبين كيف يتعامل مع النمر، لينتهي به الأمر بأنه لم يتركه ليغرق، ولم يلتصق به فيهلكه النمر بوحشيته … لكنه احتفظ به على قطعة خشب طافية وبينهما حبل يصلهما
فالإنسان لا يستطيع الفكاك من جسده وغرائزه، ولا يمكنه أن يستغرق في هذا الجسد وشهواته فيهلك … لكن يجب أن يكون بينهما “حبل”
لقطة أخرى يجد فيها “باي” نفسه و”نمره” على جزيرة جميلة عجيبة ظن أن فيها نجاته بطعامها وشرابها ليستغني بهما عن قليل الأسماك التي كان يأكلها في رحلته ….. لكنه فوجئ أن تلك الجزيرة تأكل من عليها ببطء ودون أن يشعر حتى النهاية
فتلك الدنيا بلذاتها وزخرفها تأكل من يستغرق فيها وينسى رحلته الأصلية بحثًا عن النجاة
مدركًا حقيقة الجزيرة “الدنيا”، يهرب باي بروحه وجسده (النمر) منها ليكمل بحثه عن الخلاص الحقيقى لا المزيف
في النهاية، يصل “باي” إلى الأرض الحقيقية حيث يستقبله من ينقذونه، لكن ذلك بعد أن يفارقه النمر مختفيًا في الأدغال
فتلك الأرض هي أرض “ما بعد الحياة الدنيا” …. عندها تحلق الروح بعد أن يخف عنها حمل الجسد ليذهب ويختفي
هنا تدمع عينا “باي” وهو يحكي اللحظة التي رحل فيها النمر دون حتى أن يلتفت وراءه …. فذلك الجسد وغرائزه …. إلى زوال
فـ”باي” هو الإنسان كما تقوله الأديان، والنمر هو الجسد، ورحلة باي ونمره في البحر بحثًا عن الخلاص هي رحلة الإنسان ليفهم، والجزيرة العجيبة المتلألئة هي الدنيا البراقة النهمة، والخلاص سيكون عندما تفارق الروح جسدها وتحلق خفيفة وحرة
إن لم تكن قد شاهدت الفيلم، شاهده فهو ممتع على جميع المستويات؛ العقل والحواس
وإن كنت قد شاهدته بالفعل، شاهدته مرة أخرى بعد أن تقرأ المقال، ربما تراه هكذا، وربما تراه أفضل

محمد سمير شعبان

مدرس بكلية الطب جامعة اسكندرية

باحث بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالاسكندرية