إصداراتمقالات

كيف ننظر للإعلام؟

الحاجة للاجتماع السياسي

لقد كان من الأسهل للإنسان أن ينتخب الحياة في النموذج الانعزالي أو شبه الانعزالي. فيعيش في جماعات أو عائلات صغيرة لا تتقارب أو تتواصل إلا فيما قل وندر. هنا كان سيستفيد من المسؤوليات المحدودة والخصوصيات والحريات الأوسع. فالمسؤوليات المحدودة تعطيه حرية أكبر في تنظيم حياته كيف يشاء متى شاء وأن يرتب أولوياته بالصورة التي تلائمه هو، لا ما قد يفرضها عليه المجتمع الواسع لو كان اختار النموذج الاجتماعي الشامل.

ولكن هذه الحياة الانعزالية كانت ستحمل معها المشاكل والعيوب أيضا مثل تكرار الأفكار والاختراعات (فكل عائلة مثلا ستضطر لتصل لاختراع الدولاب أو العجلة بمفردها على فرض أن النموذج شبه انعزالي). وهذا مما يحد من سرعة حركة النمو والتطور في المجتمع. كما أنّ قدرة الإنسان في النموذج الانعزالي على مواجهة المخاطر والتحديات أو إقامة المشاريع الإنمائية الكبيرة محدودة جدا إن لم تكن منعدمة.

ولما كان رغد العيش والتطور من الحاجات الإنسانية للإنسان فلقد قرر أن يعيش في النموذج الاجتماعي مضحيا بقدر مقبول من حريته وخصوصيته في مقابل تسريع حركة التطور والرخاء التي يطلبها. فكان الثمن لهذا التطور هو التزاحم في الحريات والحقوق وتعاظم الواجبات والمهمات. ولذلك قرر الإنسان أن ينظم هذا التصارع بين الحقوق والواجبات بالنظام والقانون الذي يضمن للناس القدر المعقول من الحريات والحقوق بشرط تحملهم لنصيبهم العادل من المسؤوليات والواجبات.

ولما كان هذا النظام الاجتماعي كالآلة البخارية التي يضخ فيها الوقود ليستخرج منها الشغل المفيد أو الإنتاج. فلقد اعتمدت كفاءة عمل تلك الآلة الاجتماعية على كفاءة التنظيم الاجتماعي وفق تلك القوانين والمبادئ. فكان هدف الإنسان الأسمى لا النظام لمجرد النظام ولكن أصبح يطلب النظام الأمثل أو الأكفأ في تحويل الطاقة الاجتماعية لرخاء حضاري واجتماعي. بل وأصبح التمايز والتفوق بين النماذج الحضارية المختلفة يتجلى من خلال درجة كفاءة تنظيمها الاجتماعي. فتمايزت الحضارات واختلفت مجالات تفوق كل حضارة عن أختها على حسب القنوات الإبداعية التى تمهدها وتشقها تلك الأنظمة المختلفة وفق قدراتها الذاتية. فالمجتمع الإسبرطي ذو التنظيم التقشفي العسكري نبغ في فنون القتال والنزال. بينما النموذج الأثيني ذو التنظيم التثقيفي والمعنوي نبغ في العلوم الفلسفية وأنتج لنا أعلام الفلاسفة كسقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم. ومن هنا نشأ المثلث الذهبي للحياة الاجتماعية البشر والقانون (أو الثقافة) والتطور.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الحاجة للجهاز الإعلامي

هذا النموذج الاجتماعي فرض على الإنسان تحديا نوعيا جديدا ليضمن تحقيق الكفاءة القصوى. هذا التحدي تمثل في التوجيه الذهني الموحد للمجتمع. فالنظام العملي لن يتحقق دون النظام الفكري والمعنوي في المجتمع. ومن هنا احتاج المنظم أو المسيس للمجتمع لأداة إعلامية توحد الوعي الفكري للمجتمع على قبلة النظام الاجتماعي الذي قرر المجتمع اتّخاذه كقانون لتنظيم شؤونه في المجالات الحياتية المختلفة. ومن هذا النموذج الثلاثي وطبقا لتلك الحاجة انبثق الرأس الجديد للهرم الاجتماعي والذي تمثل في الآلة الإعلامية.

التعليم والترويج والأخبار والترفيه

ومع الوقت تطور دور الجهاز الإعلامي في المجتمع ليتخطى التنظيم السياسي وليشمل كل تشكيل للوعي الاجتماعي في مختلف المجالات. فكلما ظهرت الحاجة لتوسيع الرقعة الثقافية في مجال من المجالات كان الإعلام خير عون في ذلك. وظهر هذا جليا وبشكل مطرد مع الزمن ليشمل الإعلام في الوقت الحالي مهمات كثيرة أهمها الأخبار والتعليم والترويج التجاري والسياسي والترفيه بمختلف أشكاله. وصاحب التطور الغائي وتلازم معه تطور مادي وصوري ليعزز من قدرة هذا الجهاز ويعينه على تحقيق الأهداف المرجوة منه. فما بدأ بالخطب والمحاورات (محاورات سقراط) والمنشورات والمناظرات في الساحات والملاحم الشعرية (الإلياذة والأوديسا) تطور ليشمل المسارح والأغاني والمطبوعات بمختلف أنواعها والأفلام الوثائقيات والسينما والتلفاز والراديو وغيرها من التطورات التكنولوجيا الضخمة.

قوى النفس ومؤسسات المجتمع

إننا لو ناظرنا بين التشريح الفلسفي للنفس الإنسانية والتشريح الفلسفي للنفس الاجتماعية سنجد مطابقات مهمة تكشف لنا عن التشابه بين الطريقة التي ينبغي أن نروض بها أنفسنا وبين تلك التي نروض بها المجتمع أو الشعب. فالأكاديمية والجامعة مكان العقل والحكمة والعلم واليقينيات. بينما المساجد والكنائس والمعابد وأماكن العبادة هي صومعة الروح والقلب والعبادات. أما الجيوش والمعسكرات والكشافات والجوالات فمكان للغضب والمغامرة والاندفاع بشجاعة نحو المجهول والتحديات. أما الإعلام فيأتي في مقابل القوى الوهمية والمخيلات. هذه الآلة الإعلامية الجبارة التي تشعرك بدفء النار دون تقربها أو تذكرك بأحداث الأمس دون أن تسافر في الزمن. وهي أيضا تسرح بك في الأحلام والأوهام لتتمنى في المستقبل وتحلم وتخطط. وتركب لديك أحداث الحاضر لتتوقع وتتأمل إحتمالات الغيب.

وكما أن توهمك قد يجرك دون وعي منير أو عقل حكيم نحو قرارات خاطئة ومجازفات جسيمة قد لا يكون الخروج منها سهلا، فكذلك الإعلام الذي يفتقد للبوصلة الحكيمة التي توجهه نحو الهدف السليم. فبدلا من أن يمني المجتمع ويحفزه نحو الهدف الحقيقي والغاية السامية لوجوده، قد يوجهه لحتفه وانجرافه خلف النزوات والسراب الذي لا طائل من ورائه إلا الخسارة والاضمحلال الاجتماعي والحضاري. ومن هنا يتضح أنه دون وجود قوة عقلية حكيمة واعية تحرك هذا الآلة وتحدد لها المسار الذي تمشي فيه دون أن تقيد له المساحة الإبداعية التي يحتاجها لتشكيل الوعي الاجتماعي، فإن من دون وجود هذا الراعي سينقلب السحر على الساحر ويتحول من مشكل للوعي الاجتماعي لمزيف أو لمحرف لهذا الوعي.

النظرة الفلسفية من المنظور الوجودي

ولذلك علينا هنا أن نسأل أنفسنا عن الإعلام وعن أسباب وجوده. ونجيب عن هذا التساؤل من خلال مبحث العلل الأربعة والذي هو منطقيا يفسر الأسباب الوجودية لكل ما يمكن أن يكون موجودا. فالمنطق ينظر للموجودات من خلال علل الصورة والمادة والصانع والغاية. فالمنضدة لها تصميم هندسي (الصورة) وينتخب لها المادة الملائمة (خشب بأنواعه أو بلاستيك أو حديد… إلخ) وينفذ تصميمها صانع محترف (النجار أو الحداد أو عامل المصنع … إلخ) ولها غاية نهائية (الطعام، التزيين، الدراسة، الاجتماع،…إلخ). ولا يكتمل لدينا التصور الكامل لسبب وجود المنضدة إلا بعد الإلمام بتلك المباحث الأربعة لأسباب وجودها. وكذلك الإعلام لو فشلت الصورة أو المادة أو الصانع في تحقيق الغاية من الإعلام في النهاية لجاز لنا أن نصف الإعلام بالفشل والعكس والعكس. ولذا كانت العلل الغائية هي مفاتيح تكامل الوجود وتمامه.

فالإعلام في صوره المختلفة مسموع ومقروء ومرئي بمختلف مواده وأجهزته (التلفاز والراديو والجرائد والمجلات و…. إلخ) وبمختلف صانعيه (الكاتب والباحث والممثل والراوي والمذيع والمعد والمخرج والمصور والمراقب…إلخ) يجب أن تتوحد جهودهم ومحاولتهم على قبلة واحدة وهي الهدف الأسمى والأهم للإعلام. وهو ما يجلي كل تلك المجهودات ويتوج إنجازاتها.

والغاية هنا لها وجهان للتعريف. الغاية بالمعنى الأعم وهو الإعلام لمجرد الإعلام أو ترويج المعلومات. أو بالمعنى الأخص فتعتبر الوسائل الإعلامية المغذي الرئيسي للذهن الاجتماعي بالمعلومات التي تعينه على إحراز تكامله على المقياسين الجمعي والفردي. ويظهر من هنا أمر هام أن الخلل في تشخيص الغاية من الإعلام لن يكون إلا لخلل في تشخيص غاية المجتمع والمعنى الحقيقي لتكامله، إما جهلًا أو إغراضًا. فلو تشكلت الغاية الاجتماعية ببقاء المجتمع ذليلا خانعا مستعبدا من قبل المستعمر الذي يمص دماء المستضعفين من أهل الوطن وينهب ثروات ومقدرات الشعوب. فإن الإعلام سوف يعمل على أن يصل المجتمع لتلك الغاية. فسيغذي المجتمع بالمعلومات التي تهيئه لذلك الدور وهذا الهدف. أما لو كان الهدف المشخص للكمال الاجتماعي هو تحقيق العدل وبناء الحضارة الإنسانية الحقيقية التي تضمن الحقوق الآدمية للإنسان على الصعيدين المادي والروحاني أو المعنوي، فإن هذا الهدف سيوجه دفة الإعلام بأسلوب مختلف تماما ليبني شعبا عزيزا، كريما ومقاوما لا يهدأ حتى يرفع الظلم عن كل المستضعفين من بني البشر. وهذه هي أسمى القيم والأهداف الاجتماعية بلا شك، ألا وهي إقامة النموذج العادل الذي يرفع ثقل العبودية عن بني الإنسان.

النظرة الفلسفية من منظور الأخلاق

وعندما تتحدد هذه الغاية في الذهن النخبوي وفي الذهن الاجتماعي العام للمجتمع سيدرك الإعلام غايته وهدفه. وسيضع نفسه في الإطار السلوكي والأخلاقي السليم بلا شك. فالهدف هو الصراحة في البلاغ دون التهويل ولا التهوين. والشجاعة في التحفيز دون التهور ولا التخاذل. والتهذيب في النفوس دون التزمت والتضييق أو التسفيه والتسيب. والتثقيف بالحضارات والتاريخ دون الانغلاق والانعزال أو الخنوع والتبعية. والترفيه عن النفوس الحزينة دون الإسفاف والخلاعة أو الملل والضجر. سيتحتم هنا على الإعلام كجهاز أن يتقن تحضير الوجبة الإعلامية التي يطلبها الفرد والمجتمع بالمقادير والتوابل المتزنة والموزونة. كما يحضر الطباخ الذواقة أشهى الحلويات بكمية العسل المضبوطة دون إفراط ولا تفريط. وهذا هو جوهر المفهوم الفلسفي للأخلاق الذي يؤسس للخلق السليم كفضيلة بين رذيلتين.

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.