لكل معلول علة
(لا أعتقد أن هناك ما يجبرنى على تصديق أن الإله الذى حبانا المنطق والتفكير والذكاء يريدنا ألا نستعمله)
هذه مقولة للعالم الفيزيائى والمفكر غاليليو غاليلى فهو يرى أن المنطق والتفكير هبة وعطية من الخالق وأنه غير مجبر على التخلى عن استخدامهما وأعتقد أن أى شخص لن يختلف مع غاليليو فى أننا لسنا مجبرين على التخلى عن عطايا الإله بل نحن مجبرون على التمسك بها واستخدامها لتحقيق الأفضل والخير.
وحيث أن كل ما فينا هو من فيض الإله فالتفكير كذلك هو نعمة من الإله ومحال أن يتعارض مع قوانين وسنن الخالق فى الكون وعندما ننظر إلى قوانين التفكير التى استنبطها المفكرون من البشر ومن الطبيعة على مر العصور سنجدها كثيرة ومتشعبة وقد نجد أن لكل قانون كتيب أو كتاب وقد نشعر أننا لسنا بحاجة لمعرفة كل هذا وهناك قوانين قد نراها معيارية وأننا لسنا بحاجة لاستخدامها… ولكن ما قد يستدعينا لإلقاء نظرة على بعض هذه القوانين هو أن أرسطو خص بالذكر ثلاثة قوانين رأى أنها أساس كل القوانين وأساس علم قوانين التفكير لأنها تصدر عنا بطريقة تلقائية وغير وارد أن ينكر أى فرد أهميتها وفطريتها وسماها مبادئ فطرية… وأحد هذه القوانين قانون (لكل معلول علة).
إن جملة لكل معلول علة عندما تصطدم بآذاننا لأول مرة نشعر بأننا لا نفهمها أو أننا لم نتعرض لها من قبل ولكن بعد التحقق من معناها وفهم ما تشير إليه سنجد أن شعورنا هذا لم يكن إلا استنكارا لفظيا كعادتنا عند سماع أى لفظ جديد على أذهاننا وسندرك أننا نعرف حقيقة الجملة بل ونتعامل معها يوميا بشكل تلقائى فنحن نقول فى أمثالنا (مفيش دخان من غير نار) وهو ما وجده أجدادنا بفطرتهم وبتلقائية ومن دون توجيه.
إذا فلكل معلول علة هو الوجه الآخر لمقولة مفيش دخان من غير نار بمعنى أن كل شئ موجود على هذا الكون لا بد أن هناك “ما” أو “من” أوجده فكل ما هو محتاج وفقير على هذا الكون هناك من أفاض عليه بالوجود ومحال أن يقبل العقل أنه وجد من تلقاء نفسه فالإنسان عندما يتأمل حاله والهيئة البديعة التى هو عليها وروحه التى يعجز حتى الآن عن فهم أسرارها يسلم بأن هناك من أوجده وأفاض عليه بنعمة وجوده.
والعلل قد تكون مادية وزمانية مثل علية الأب والأم للولد وعلية الماء والهواء للنبات فهذه علل إعدادية فقط وليست إيجادية أى أنها لا توجد معلولاتها وإنما تهيئ الأرضية اللازمة لوجودها فالعلل المادية ما هى إلا مجرد شروط لإمكانية إيجاد معلولاتها من قبل العلة الإيجادية ولهذا نقول أن هذه العلل من حيث رتبة الوجود هى فى عرض معلولاتها وقد تصبح المعلولات فى درجة أعلى وأكمل من معلولاتها ولذلك هى علل عرضية لا توجد معلولها بل تهيئ المناخ لإيجاده… فعلى سبيل المثال لو تخيلنا وجود عالم مخترع يعمل من أجل اختراع شئ جديد وهو قد حصل من العلم وأدى من التجارب ما يهيؤه للوصول إلى هذا الاختراع ولكى يتم الاختراع فلا بد من وجود من يهيئ المختبر الذى يعمل فيه العالم ومن يجهز له الملابس المناسبة وشخص مساعد ينفذ أوامر العالم… فهنا كل هذه علل تهيئ المناخ اللازم لحصول الاختراع أما العالم فهو من سيخترع وهو الوحيد الذى لا يمكن مبادلته فى هذه المجموعة بل إن كل هؤلاء وجدوا فقط لمساعدته أما هو فهو العلة الإيجادية للاختراع ولهذا كل الآخرين هم علل عرضية.
والعلل التى هى مقصدنا هنا هى العلل الطولية أو الإيجادية بمعنى العلل التى توجد معلولا لها والتى بانتفائها ينتفى معلولها ولكونها أعلى رتبة فى الوجود وشرط أساسى لإيجاد معلولاتها فهى علل طولية أى أن المعلول فى طول علته لأنه أقل منها مرتبة ولا يمكن أن يكون فى عرضها لأنه محال أن يتساوى بالعلة التى أفاضت عليه بالوجود.
فسر ارتباط المعلول بعلته هو افتقاره الذاتى الوجودى فالمعلول هو شئ ممكن الوجود (أى أنه لو لم يوجد فلن يخل هذا بنظام الكون أى أننا يمكن أن نتخيل عدم وجوده) وكل ممكن محتاج إلى من يفيض عليه بالوجود فالعلاقة بين العلة والمعلول هى علاقة ارتباطية وليست استقلالية فإنك حينما تقرأ كتاب أو تصافح صديقا قد أوجدت علاقة بينك وبين كل ما سبق وهذه العلاقة تنتفى بمجرد أن تعرض عن قراءة الكتاب أو مصافحة الصديق وانتفاء هذه العلاقة لا ينفى وجودك أو وجود هذه الأشياء بل يبقى وجودك ووجودها على ما هو عليه أى أن الأطراف مستقلة عن بعضها وهذا معنى العلاقة الاستقلالية… بينما نجد أن العلاقة بين قدرة العين على الرؤية وحركة الجفن لأعلى هى علاقة ارتباطية فالعين لن تستطيع الإبصار ما لم يتحرك الجفن لأعلى وأى شئ يعيق حركة الجفن لأعلى فهو بالتبعية يعيق الرؤية ولهذا فالطرفان مرتبطان ببعضهما والعلاقة بينهما هى ارتباطية وهذه هى علاقة العلل الطولية بمعلولاتها.
وأيضا لا بد من تناسب العلة والمعلول فكل علة لا بد أن تكون أعلى رتبة من معلولها بل إن كل علة تصدر معلولا معينا ولا يوجد علة تصدر معلولا غير معلولها ولا يوجد معلول يصدر من غير علته وإذا قبلنا بنسبية هذا الكلام فإننا قد نقبل بأن يصدر انفجارا ضخما نتيجة لإشعال عود ثقاب واحد وقد نقبل أيضا بأن انفجار قنبلة نووية قد يؤدى فقط إلى قليل من الدخان وهذا ما لا يقبله العقل؛ إذا فلا بد من تناسب العلة والمعلول.
وبناءً على ما سبق ذكره فإن كل علة توجد معلولا لا بد أن تكون هى الأخرى معلولة لعلة أرفع منها وأعلى مرتبة منها وإذا استمر التسلسل على هذا الحال فلن يكون له نهاية وهذا محال عقلا ولهذا لن نجد إلا إجابة واحدة وهى الوحيدة المقنعة للعقل وهى أنه لا بد من علة أولى للوجود.. علة أعلى غير مفتقرة إلى من يفيض عليها بالوجود فهى علة غنية عن كل ما سواها وكل ما سواها مفتقر لها وهذا من قبيل عدم احتياج الملح إلى ملح حتى يكون مالحا لأنه بطبعه مالحا ومحاولة الاقتناع بأن الملح يحتاج ملحا لجعله مالحا هى محاولة عبثية تنم عن قصور فى العقل والفكر ويكون من باب تحصيل الحاصل وهذا باطل؛ فالعلة الأولى هى العلة الغنية بذاتها هى واهبة الوجود.. هى العلة التى يفتقر إليها كل ما هو موجود.. هى العلة الوحيدة الواجبة(عدم وجودها يخل بنظام الكون وينافى العقل) وكل ما سواها ممكن وهذه هى سنن الله فى الكون والتى وضعها ليستدل بها العقل وتنير له رحلة بحثه ومحال أن نجد لسنة الله تبديلا.