إصداراتمقالات

عن الاصلاح الاجتماعى

مما هو معروف عند الجميع أن علماء علم الاجتماع يقسمون أى مجتمع إلى ثلاث طبقات اجتماعية: طبقة عليا، ووسطى وطبقة دنيا
ومن الشائع عند الجميع أن أساس هذا التقسيم هو مستوى الدخل
ومعروف أيضًا أن الطبقة الوسطى هى المحرك الأساسى لأى مجتمع، حراكها هو ما يحدد اتجاه حراك المجتمع إما لأعلى أو لأسفل
لكن ما هى خصائص هذة الطبقة الوسطى؟… ولماذا هى المختصة بهذا الحراك وإن بدا للناظر السريع أن الأولى بهذا الحراك والتحريك للمجتمع هو الطبقة العليا بما تمتلكه من مال ومن تعليم أفضل ومن نفوذ؟
للتفكر فى هذا السؤال نحتاج لمعرفة خصائص تلك الطبقات، وكيف يؤثر بخصائصها فى المجتمع، وما هى تلك الخصائص التى على أساسها يتحدد رقى أو هبوط المجتمع
فى الأساس، يجب أن ننتبه إلى أن التفاعل فى أى مجتمع يحدث نتيجة لتطلعات ومخاوف كل طبقة من طبقاته؛ فالطبقة العليا بما تملكه من مال ومن نفوذ، قد وصلت إلى مرحلة الاطمئنان على نفسها، بمعنى أنها بمالها ونفوذها قد استقرت وأمنت على نفسها فى الوضع الحالى للمجتمع، ومن ثم فهى حريصة كل الحرص على ثبات هذا الوضع الحالى وعدم تغييره لأنه يوفر لها الاستقرار؛ وبالتالى فهى ترفض أى محاولة لأى تغيير جذرى فيه، وهى إلى حد كبير معزولة عن باقى الطبقات، فهى تستطيع أن تحيط نفسها بقوقعة من مالها نفوذها ترتاح وتأمن داخلها، والطبقة العليا بالتالى إنتاجها الاجتماعى والثقافى قليل، وإن كان فإنما يكون على سبيل الترفيه والتفضل والتسلية، لا على سبيل إثبات الذات؛ فهى بالفعل قد حققت ذاتها داخل المجتمع أولًا، وداخل قوقعتها ثانيًا، والطبقة الدنيا هى الطبقة الكادحة قليلة التعليم والثقافة، وهى مشغولة دومًا بالجرى وراء لقمة العيش، ذهلت بها عما يحيط بها من أحداث المجتمع، وهى قليلة التطلعات إلى أعلى، إنما كل همها هو الاستمرار على قيد الحياة، فلا تهتم بمستوى الأعمال التى تقوم بها مما اصطلح على تسميته بالأعمال الدنيا فى المجتمع، قد استقرت ورضت بما هى فيه، وهى قليلة الإنتاج الثقافى والعلمى نتيجة لانشغالها الدائم بالاستمرار بالحياة.
تبقى الطبقة الوسطى، ولا يكفى فيها التمييز بمستوى الدخل، إنما أيضًا لا بد أن ندرك أنها تتميز دومًا بالتخوف وبالتطلع
التخوف من أن تهبط إلى الطبقة الدنيا، والتطلع إلى الارتقاء إلى الطبقة العليا
فهى دائمًا و دومًا تعيش حالة من القلق والترقب والتخوف
ومستوى دخلها يسمح لها بالتعليم، وتجاوز الانشغال بأساسيات الحياة من مأكل ومشرب إلى ما هو أعلى من ذلك من التفكر بما يتجاوز المادة إلى إشباع رغبتها فى إثبات الذات
وبذلك، تكون الطبقة الوسطى هى الأقوى فى تفاعلها و فى حراكها داخل المجتمع من الطبقتين العليا والدنيا، وهى التى تحدد بالأساس مستوى الثقافة والأخلاق فى مجتمعها
وأهم الخصائص التى تتميز بها الطبقة الوسطى فى مجتمع خاصيتان: معدل ارتفاع الدخل، ومصدر ذلك الدخل
ويمكن تقسيم مصادر الدخل إلى مصادر إنتاجية (صناعة أو زراعة)، ومصادر غير إنتاجية (مثل التجارة والمضاربات فى البورصة والتحويلات من الخارج)
فالمصادر الإنتاجية هى الأشق والأصعب، وتتطلب مستوى أعلى نسبيًا من التعليم، وهى بطيئة فى تكوين الثروات؛ وبالتالى عملية تكوين الثروات عن طريقها هى عملية تربوية فى الأساس، فالعمل الإنتاجى يحمل فى داخله تربية للنفس على الجلد والكفاح وإعلاء قيمة العمل، والحالة النفسية الناتجة عنها تكون أكثر رقيًا وأكثر سلامة فى مكوناتها وتنتج عنها ثقافة سليمة وراقية
على الجانب الآخر، الأعمال غير المنتجة تحقق الثروات فى وقت أقل، ولا تتطلب بالضرورة نفس المستوى من التعليم والكفاح والمثابرة مثل الأعمال المنتجة، ففى وقت قليل وببعض “الحظ”، ممكن بالقليل من المضاربة فى البورصة أو شراء ثم بيع قطعة من الأرض أو عقار، أن تحقق ثروة لا بأس بها؛ بالتالى الطبقة الوسطى التى تكونت من أعمال يغلبها اللاإنتاج، تكون أضعف فى تعليمها وأقل فى ثباتها النفسى، والثقافة الناتجة عنها تكون أقل فى الرقى وأقل فى الأخلاق السوية.
ومصداقًا لذلك، ففى ستينات القرن الماضى، ومع التصاعد السريع للصناعة فى مصر، ومع التصاعد المصاحب لها فى التعليم، نتجت حياة ثقافية أفضل ومستوى أخلاقى مجتمعى أحسن
وبالعكس فى سبعينات القرن الماضى وحتى الآن، مع هبوط الصناعة والزراعة فى مصر فى مقابل تصاعد الثروات المتكونة من التجارة ومن التوكيلات التجارية وتحويلات المصريين فى الخارج والمتاجرة فى الشقق و الأراضى، شهدنا هبوطا حادا فى مستوى الأخلاق والثقافة، هبط معه مستوى التعليم (بالإضافة إلى عوامل أخرى بالطبع)، حتى وإن شهدت “الأرقام الإحصائية” بارتفاع معدلات التنمية وارتفاع الدخل القومى.
ففى السبعينات، هبطت الطبقة التى كانت متوسطة والمعتمدة على الصناعة والزراعة فأصبحت تقارب الطبقة الدنيا أو أدركتها بالفعل، فتخلقت بأخلاقها من الاهتمام الرئيسى بلقمة العيش مع إحساس حاد بالظلم، وفى المقابل ارتفع بعض مما كانت الطبقة الدنيا بسرعة نتيجة الأعمال غير المنتجة إلى تصدر الطبقة الوسطى، حاملة معها أخلاق الطبقة الدنيا من الاهتمام المسعور بالمادة دون القيمة وبضعف مستواها الأخلاقى والثقافى، دون منحها الوقت اللازم للتهذيب والارتقاء
ومن الملاحظ أن مستوى و”نوع” التدين فى الأساس تابع لذلك الحراك الاجتماعى وليس مشكلًا له
بمعنى أن الطبقة الدنيا ببساطتها وسطحية فكرها ناسبها الخطاب الدينى السطحى المهتم بالمظاهر أكثر من الخطاب الدينى الأكثر عمقًا والذى يخاطب النفس والروح ويبنى القيم والمفاهيم، فحين انتقلت تلك الطبقة الدنيا “سريعًا” إلى الطبقة الوسطى، رفعت معها تدينها “السطحى” دون التدين الأعمق
وعلى ذلك، فلكى نبنى مجتمعا سليما فى أخلاقه وفى ثقافته، ينبغى الاهتمام فى الأساس بالطبقة الوسطى وليس العليا، والاهتمام بالأعمال المنتجة، لا غير المنتجة، وينبغى أن ندرك أن بناء تدين سليم فى مجتمع لا يكون فقط بتحسين الخطاب الدينى فقط، وإنما بتكوين مجتمع سليم اجتماعي يستطيع أن يفهم القيم الدينية الأعمق.

محمد سمير شعبان

مدرس بكلية الطب جامعة اسكندرية

باحث بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالاسكندرية