إصداراتمقالات

منطق التغلب وفضيلة القوة

كان نيتشه الفيلسوف الألماني المشهور، صاحب منطق القوة دائما ما يقسم الأفعال والإدراكات والمصطلحات إلى مصطلحات السادة ومصطلحات العامة، فمثلا كلمة حسن في رأي نيتشه في عهده تراها الطبقة الأرستقراطية أو طبقة السادة بمعنى القوي، أما العامة فيرون الكلمة بمعنى المسالم والطيب والفاضل[1] وهكذا، هذا يعطينا انطباعا عن فكر نيتشه القائم على القوة في أساسه، فبالنسبة لنيتشه المجتمع هو عبارة عن سادة وعامة وإن الفضيلة الأسمى في نظره هي خضوع العامة للطبقة الأرستقراطية وممارسة طبقة السادة لحقها الطبيعي في التملك والسلطة والرغبة ومن هنا نرى أن الفضيلة والمسالمة والتسامح والكرم لا وجود لهم عند نيتشه أبدا، بل أن هذه الحياة عند نيتشه هي صراع لابد أن يتغلب فيه السادة ويخضعوا العامة لرغباتهم.

إن هذا المنطق الأخلاقي النتشوى الخطير كان له صدى في تكوين الفكرة النازية الألمانية التي اجتاحت أوروبا في وقت من الأوقات وسببت أكبر حرب في تاريخ البشرية التي راح ضحاياها فوق الستين مليون نسمة، ولن أبالغ إن قلت أن هذا المنطق العنيف له صدى أيضا في أحوالنا نحن العرب وإن كان بحكم الحال، لا بحكم التنظير والمقال، أي أننا في عصرنا هذا نمارس المنطق النتشوى عمليا دون أن نتعرض له نظريا أو حتى دون أن يسمع البعض عن تنظيرات نيتشه أصلا، فاليوم نحن نرى فصائل وجماعات وحكومات تتفاخر فقط بكونها تمارس القوة والغلبة في حالة من الغضب المستمر الذي لا يستكين ليرتاح في كنف العقل والحكمة، بل هو -ذلك الغضب- أكبر عدو للتعقل

يتحدث الفارابي الفيلسوف الإسلامي الكبير الملقب بالمعلم الثاني في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة عن أنواع المدن أو التجمعات الإنسانية المختلفة فيتحدث عن المدينة الفاضلة أولا ثم يتحدث عن مضادات المدينة الفاضلة، فيتحدث عن مدينة التغلب وهي المدينة التي قصد أهلها أن يكونوا القاهرين لغيرهم، الممتنعين أن يقهرهم غيرهم، و يكون كدهم اللذة التي تنالهم من اللذة فقط الخاصة بالتغلب، وهنا الفارابي يتحدث عن المدينة التي تتحرك بمبدأ القوة وتستقي من هذا المنطق إجراءاتها العملية، كذلك يتحدث الفارابي عن مدينة الكرامة وهي التي قصد أهلها على أن يتعاونوا على أن يصيروا مكرمين ممدوحين مذكورين مشهورين بين الأمم، ممجدين معظمين بالقول والفعل، ذوي فخامة و بهاء[2] ، والفارابي هنا يحاول القول أن التفاخر بالفخامة والبهاء والقوة ليست من خصال المدن العاقلة العادلة بل هو من خصال المدن الجاهلة، فالجاه والشهرة والقوة ليست أشياء تطلب لذاتها بل لغيرها فالقوة دون عقل تتحول إلى دمار، والجاه دون تعقل يتحول إلى رذيلة.

لذلك يتحدث أفلاطون الفيلسوف اليوناني، تلميذ سقراط والمنظر الأول لفكرة المدينة الفاضلة عن إقامة المدينة على أساس الفضيلة ويقول أفلاطون عن الفضائل: الفضائل ثلاث تدبر قوى النفس الثلاثة الحكمة فضيلة العقل تكمله بالحق، والعفة فضيلة القوة الشهوانية تلطف الأهواء فتترك النفس هادئة والعقل حرا، ويتوسط هذين الطرفين الشجاعة وهي فضيلة القوة الغضبية، وإذا ما حصلت هذه الفضائل الثلاثة في النفس فخضعت الشهوانية للغضبية والغضبية للعقل تحقق في النفس النظام والتناسب. ويسمي أفلاطون حالة التناسب هذه بالعدالة باعتبار أن العدالة بوجه عام هي إعطاء كل ذي حق حقه. [3]

لقد خلق الله الإنسان وميزه عن سائر مخلوقاته بالعقل والتدبر، فبالعقل نشأت الحضارة الإنسانية وبه تطورت و به تحصلنا على العلوم المختلفة العقلية منها والتجريبية وبه يكون الإنسان إنسانا، فلم يكن الإنسان متمايزا يوما عن المخلوقات بأنه قوي مثلا، فالقوة والجاه والشهرة هي صفات من لواحق صفات الإنسان وهي صفات إن لم تخضع للعقلانية والتعقل صارت رذائل كما أسلفنا، إن سعي أهل الأرض اليوم نحو التمسك بمنطق القوة لن يقود إلا إلى هلاك الجنس البشري، فالإنسان الغاضب يسير إلى زواله وزوال من معه دون أن يدري.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

سوف تنتهي هذه الحروب المندلعة اليوم تحت شعار التغلب لا العدالة، ستنتهي بالتأكيد يوما ما، ستنتهي فطبيعة كل الحروب الانتهاء إلى السلام ذلك ما اعتدناه تاريخيا، ولكن عندما تنتهي هذه الحرب ستنظر لترى أنه لم يعد يتبقى منهم من ينعم بالسلام، ستنظر لترى منطقهم المتغلب قد تغلب عليهم وقد صنع منهم كائنات دون البشر، ستنظر لترى أن من سوف يبقى – إلا من رحم ربي – قد صاروا بل هم فعلا الآن في مرتبة أقل من مرتبة الإنسانية العاقلة كان الإمام علي بن أبي طالب يقول ” الإنسان أخذ العقل من الملائكة والشهوة من الحيوان فمن غلب عقله شهوته، فهو خير من الملائكة.. ومن غلبت شهوته عقله، فهو شر من البهائم ” … فقليلا من التعقل يا أمة لا إله إلا الله

[1] قصة الفلسفة، ويل ديورانت، ص320

[2] آراء أهل المدينة الفاضلة، أبو نصر محمد الفارابي، ص90

[3] تاريخ الفلسفة اليونانية، د/ يوسف كرم، ص123

أحمد رمضان

طالب بكلية الهندسة – جامعة المنصورة
كاتب حر
باحث ومحاضر بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالمنصورة