حسنًا.. بعدما كنت وحيدًا تمامًا في ظلمات بعضها فوق بعض إلا من صوت ضربات قلب أمك، تولد فتجد نفسك لم تعد وحيدًا بعد الآن، بل مع أناس فيك منهم أشياء وتنفرد عنهم بصفات، وكما بدأ أغلب الفلاسفة وعلماء الاجتماع حديثهم بجملة “الإنسان اجتماعي بطبعه”، ويحتاج للآخرين احتياج فطري ليحيا ويسد نقائصه.. ديباجة كما يقولون، يبقى السؤال دائمًا الذي يجتهد فيه جميعهم.. ما هي قوانين هذا الاجتماع وما هو شكله الأمثل؟ فنجد أفلاطون في كتابه (جمهورية أفلاطون) كمثال وضع أسس للمدينة الفاضل – التي هي في رأيي المتواضع فاضلة اسمًا فقط لا صفة – حيث عظم فيها من قدر العقل والمعرفة، وبنى نظامه كاملًا معتمدًا على مراحل متدرجة من حيث القدر فالمعرفة يفصل بين كل منها اختبار يجب تجاوزه للوصول للمرحلة التالية، أي الطبقة الأعلى في هرم المجتمع حتى نصل إلى أعلى درجة، وهي الحاكم أو الفيلسوف، وهو أعلم أهل المدينة يليه خاصته ومستشاريه.. يليهم الجيش وفارضي النظام ثم أقلهم العمال والفلاحين والقائمون على خدمة المدينة يبدو مثاليًا أليس كذلك؟.. ولكنه عامل الإنسان كالرجل الآلي عقل وفقط، فأهمل جانبه الروحي، فمثلًا لم يسمح للحاكم وخاصته ورجال الجيش من رجال ونساء -الذين كانوا سواء فى نظره- بالزواج بمفهومه لدينا، بل كان ينتقي النسل ويسمح بالأطفال من أفضل الآباء وفقط على حسب حاجة المدينة وعددها الأمثل، فلا يشغلهم -في وجه نظره -العاطفة نحو العائلة أو الالتزمات تجاهها كأي رجل عادي، وأوصى بقتل الزائد منهم وأيضًا الأطفال الذين لم يكتمل نموهم على الوجه الأمثل أو ولدوا بإعاقه ما، حيث أن وجودهم لن يصب في مصلحة المجتمع العليا ككل.. وما شابه ذلك وقد أعاد التفكير في بعض هذه النقاط في كتابه (القوانين) ولكنه مع ذلك لم يصل للشكل الأمثل….
ولا أقصد بكلامي إنكار ما قدمه للفلسفة بل على العكس.. والفارابي في بحثه فيما قال أفلاطون في كتب (آراء أهل المدينة الفاضلة) فبدأ أيضًا بحاجة الإنسان للاجتماع وأثنى على كثير مما أتى به أفلاطون، ولكنه اختلف عنه في نظرته، حيث انطلق من نطاق أكبر وهو الأمة ككل متأثرًا بالإسلام.. ووصف المدينة كوحدتها الأصغر التي بصلاحها تصلح الأمة وأسهب في وصفها وليس في وصف الأمة، ولكن تركيز الفارابي كان منصبًا على الحاكم وصفاته باعتباره أهم أفراد المدينة وبفرض انتشار المعرفة والثقافة ككل وأنه سيكون خلاص إفرازاتها، وكنتيجة طبيعيه سيكون عليهم اتباعه في كل ما يقول واستطرد في ذكر صفاته وشدد على اتصاله الروحي بالله عز وجل وقوة الجانب الإشراقي لديه ووضعه في منزله تقترب من الأنبياء والملائكة، فالاتحاد بالله والمضي بأمره، واشترط وجود بعض الصفات الأساسية فيه وقسمها إلى صفات فطرية (تمام الأعضاء- القدرة على الحفظ والفهم- الفطنة- حسن العبارة- حب العلم والصبر على ألم تحصيله- القدرة على السيطرة على الشهوات كالنساء والطعام بمعنى آخر كره اللذات- الصدق- كبر النفس- حب الكرامة- أعراض الدنيا له هينة- قوي العزيمة لا خائف ولا ضعيف النفس) وأخرى مكتسبة (الروحية والحكمة- العلم وحفظ الشرائع- الحذر والقدرة على الاستنباط فيما لا يحفظ عن السلف- الاستنباط في حوادث الأمور والقدرة على إيصالها للعامة- والعلم بالصناعات الحربية وشدد على كل ذلك قناعته التامة بأن الحاكم هو أهم فرد لقيام المجتمع.. وفي حالة لم تتوافر جميع هذه الصفات في شخص واحد مجتمعة.. مثلت كل صفة في شخص وولى على هذا المجموع رئيس مؤقت يتصف بالحكمة، يديرون أمور البلاد لحين ظهور الحاكم المستحق، وغيرها من الاجتهادات الناتجة عن قدح القريحة..
ولكن مهما زاد علم الفيلسوف أو الباحث فإنه لن يصل الى إحاطة وعلم الله عز وجل بخلقه وتصريف أمور كونه، فهو الكامل جل علاه، ومهما حاول الإنسان لن يستطيع أن يصل لوضع الشريعة المثلى التي بها يستقيم العيش، بل سيجب عليه أن يؤمن بالله وبعلمه وحكمته ويتقبل شريعته التي بعثها بكتبه لنا عن أنبيائه، مستدلًا عليها بعقله مستيقنًا من صحة صدورها عن المولى عز وجل مسلمًا نفسه للخالق جل وعلا آملًا فى الفوز بصلاح دنياه وآخراه.
المراجع:
“جمهورية افلاطون” – أحمد المنياوي
” آراء أهل المدينة الفاضلة ” – الفارابي
” الفلسفة الغربية” جزء المدينة الفاضلة – يوسف كرم