إصداراتمقالات

أزمة الفكر السياسي.. بين عدالة الحكماء وحرية الجماهير

زخرالتاريخ الإنساني بمحاولات عديد الفلاسفة والمفكرين في إيجاد الصيغة الأفضل للمجتمع، وتدبير الشأن السياسي في الدولة وإقامة المدن على أكمل صورة، فمن أفلاطون إلى الفارابي إلى بيكون وفولتير وروسو وكل هؤلاء، كانت تنظيراتهم تهدف في النهاية إلى خلق مجتمع فاضل بطريقة أو بأخرى، كل حسب فهمه واستيعابه لفكرة ومفهوم الفضيلة في المقام الأول فمنهم من رأى أن الفضيلة الاجتماعية الأولى تتمثل في الحرية فخرجت علينا النظرة الليبرالية للمجتمع، ومنهم من اعتقد بأسبقية العدالة واعتبارها الفضيلة الأولى فكانت بعض التنظيرات لفلاسفة اليونان القديم عن المدينة الفاضلة وتبعها عديد الفلاسفة أهمهم الفارابي في وضع أسس المدينة العادلة أو الفاضلة، وكانت النظرية الأرستقراطية في الحكم عند بعض فلاسفة أوروبا ومنهم بيكون صاحب فكرة مدينة العلم أو أطلانتس الجديدة.

ولكن هناك دائما أزمة واجهت هؤلاء المنظرين، فما بين الدعوة إلى الأرستقراطية وحكم النخب المثقفة وتجاهل آراء الشعب وعدم الاعتماد على آرائهم، وما بين الدعوة إلى الديموقراطية الشاملة وحق الأغلبية كحق مطلق والتسليم لحرية الجمهور تسليما تاما، والحقيقة كما أرى أن كلا النظريتين بهما نقاط ضعف، فالأولى وهي تسعى نحو إقامة العدالة وهي الفضيلة الأولى في رأيي ولها السبق على الحرية كما سأبين، ولكن نقطة الضعف في النظرية الأرستقراطية أو حكم النخب المثقفة أن أغلب هذه النظريات لم يضع للشعب دورا رئيسا في العملية السياسية، وهو المعني أصلا بتلك العملية فكيف ينحى جانبا منها وهو المقصود بها وكيف يكون للشعب الأمان بالخضوع إلى هذه الحكومات دون مراقبة منه وكيف يضمن أن هذه الحكومات لن تنقلب على مصالحه وتستبد ضده، فأفلاطون مثلا يحدثنا في كتاب الجمهورية عن فكرته حول المدينة الفاضلة.

يقول أفلاطون أن الإنسان يتكون من ثلاث قوى رئيسة تتحكم في أفعاله وتصرفاته وهي القوة الغضبية والشهوية والعاقلة فإذا ما خضعت القوتين الغضبية والشهوية في الإنسان لسلطة العقل حصلت الفضيلة الرئيسية والأهم أو الفضيلة الأسمى وهي العدالة، ويحاول أفلاطون تطبيق نفس النظرية على المجتمع فيقول أن المدينة تنقسم بدورها كما الإنسان إلى ثلاث قوى الشهوية وهي الإنتاج أو الشعب العامل والغضبية وهي الحراس والعاقلة وهي حكماء المدينة وفلاسفتها، فإذا ما حدث وتفلسف الملوك أو تملك الفلاسفة حصلت الفضيلة الأسمى في المدن وهي العدالة، وهي الفضيلة المطلوبة بلا شك وهي أسمى غايات الاجتماع السياسي، فكل اجتماع لا يهدف نحو بسط العدالة بين أرجائه هو اجتماع فاسد بالضرورة لأنه في غياب العدالة يكون الظلم، وما أبشع على البشر العقلاء من الظلم شيء، ونحن نتفق هنا مع أفلاطون في ضرورة حكم العقل على المجتمع وتوجيه ونشر العدالة فيه ونحن متأكدون من أنه ليس هناك أعلم من الحكماء بالعدالة، فالعدل وليد الحكمة والعلم بالضرورة كما أن الظلم وليد الجهالة، ولكن ما نختلف فيه مع أفلاطون هو استثناء الشعب تماما من العملية السياسية وهو ما أشرنا إليه في الفقرة السابقة، ونظرية أفلاطون كانت هي مهد النظريات السياسية المنادية بالمدن الفاضلة العادلة وهي كثيرة منها نظرية الفارابي مثلا التي تشبه نظرية أفلاطون في أمور كثيرة

فهذا اتجاه في الفكر السياسي ينظر لفكرة أحقية الحكماء في الحكم، أما عن الاتجاه الآخر الديموقراطي الذي صعد على الساحة السياسية منذ خطبة بيركليس الشهيرة في اليونان القديمة والذي صعد أكثر في العالم الحديث فيما بعد الثورة الفرنسية وإقامة الجمهورية في فرنسا فهو اتجاه به نقطة ضعف كبيرة جدا يحدثنا عنها باروخ سبينوزا الفيلسوف الهولندي من أصل برتغالي، فالرجل يرى أن الحكومات الديموقراطية تواجه أزمة كبرى إذ أنها تعتمد على آراء الشعب وحده كمرجعية نهائية للمصير السياسي للأمة، ويرى سبينوزا أن الشعوب وحدها لا تستطيع اتخاذ القرار، لأنها تفتقر إلى حكمة الحكماء في النهاية مما يجعل مصير الحكومات الديموقراطية في يد الدجالين من السياسيين في أغلب الأحوال مما يهدد بقاء النظام السياسي أصلا، وينبئ عن تفشي الظلم في المجتمع إذا ما استمر الأمر على ما هو عليه، فيرى سبينوزا أنه يجب وضع معايير وشروط للعملية الانتخابية في النظام الديموقراطي بحيث تتضمن هذه الشروط أهل العلم والحكمة وفقط ولكنه للأسف لم يستطع أن يخبرنا عن ماهية هذه الشروط ولعل السبب في ذلك هو كونه توفى وهو لم يبلغ الرابعة والأربعين من عمره، ربما لو عاش أكثر لكان من الممكن أن يخبرنا عن فكرته حول هذا الموضوع وفكرته عن حله وتبسيطه، ونحن هنا نعتقد تماما في رأي سبينوزا فالحق ليس حق الأغلبية أصلا والحكومة الديموقراطية تنبئ عن فشل كبير لعجزها عن احتواء الحكمة، فإنها تحتوي الدجل أكثر من احتوائها أي حكمة

على صعيد آخر يحاول الإمام محمد عبده الجمع بين النظريتين فهو يحدثنا حول فكرة المستبد العادل فيقول أنه لا أمل في تطبيق الديموقراطية وإطلاق الحرية والعقل نفسها لا تزال غير حرة، لذلك يجب إطلاق سراح العقل من قيود الجهل والتعصب قبل إطلاق الحرية الديموقراطية، فيقول أنه من الممكن أن يتولى الحكم حكيما عادلا يستأثر بالحكم لمدة خمسة عشر عاما يحاول فيها العمل على مشروع كامل للتربية والتعليم لإنشاء كوادر عقلية ومرجعيات فكرية يكون لها الأثر الكبير في تحويل الحالة الاجتماعية من حال إلى حال، فإذا ما حدث ذلك يبدأ إطلاق الحريات السياسية في المجتمع عن طريق المجالس المحلية ثم النيابية وهكذا، ويتم ذلك كله بموجب عقد اجتماعي فهذا المستبد العادل لا يتولى الحكم إكراها لشعبه بل بتوكيل من شعبه لفعل ما يراه مناسبا لتغيير حالهم وإصلاح معيشتهم، وهنا يحاول الإمام الجمع بين عدالة الحكماء وحرية الجماهير في قالب واحد وهو نموذج يضرب مثالا على أنه من الممكن الجمع بين الاتجاهين.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إن اندفاع العقل الأوروبي نحو إطلاق الحريات بالكلية ناسيا أن الحرية غير العاقلة لا تكون حرية بالأساس بل تتحول إلى مفسدة جعله يقع في أزمة سياسية كبرى، فالعقل الأوروبي أراد أن يستأصل الاستبداد السياسي من جذوره  والانفراد بالحكم عن طريق إطلاق الحريات في المجتمع الديموقراطي، ولا شك أن الحكومة الديمقراطية أهون ألف مرة من الاستبداد السياسي ولكن ذلك لا يعني خلو النظرية من النقائص، ولا يعني أنه لا ينبغي تناول هذه النقائص بالدحض والنقد.

إن العدالة بالتأكيد سباقة على الحرية لأنها الغاية الأولى من السياسة ومن الحياه أصلا، فكان الكواكبي يقول إن السياسة هي تدبير أمور المجتمع بمقتضى الحكمة فالحكمة أحق بالملك فقط لكونها حكمه وهذا يكفيها ولكن ذلك لا يعني إهدار حريات الشعوب في التعبير عن آرائها وفي مراقبة حكامها، فالحرية جزء من أجزاء العدالة في النهاية وهما لا يتعارضان بالكلية بل الأسبقية للعدالة على الحرية لكون العدالة بإطلاق خير محض بينما الحرية بإطلاق لا توجد أصلا،فالإنسان ليس حرا بإطلاق ولكنه خاضع دائما لسلطان إما سلطان القانون أو سلطان عقله أو سلطان الاجتماع وهكذا إلى ما لا نهاية، لذلك كانت العدالة سباقة على الحرية وذلك طبيعي ويجب على العقل العربي الراغب في التأمل حول كيفية الإصلاح أن يدرك أن النظريات الحالية السياسية ليست نهاية العالم فلا يستطيع عاقل أن يقول أن نظرية ما هي نهاية إجتهاد العقل البشري وهي ذروه إنتاجه، فذلك إهانة للعقل أصلا، ولكن يجب على العقل أن يستوعب أن المجال لا يزال مفتوحا على مصراعيه حول إيجاد حلول ونظريات جديدة تخدم العدالة وتصب في نهر الكمال الإنساني.

أحمد رمضان

طالب بكلية الهندسة – جامعة المنصورة
كاتب حر
باحث ومحاضر بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالمنصورة