والصبح إذا تنفس
لقد سحرت هذه الآية القدماء، وأفاضوا في الحديث عن بلاغتها الصوتية والتخييلية، ولا أريد أن أعيد عليك كلام القدماء، فالكلام عن البلاغة اليوم مخاطرة، فهناك من يضع مسافة بين البلاغة والحقيقة، وهناك من يبالغ فيجعل البلاغة نقيضًا للحقيقة، ولا أريد أن أدخل في هذا السجال، لكني أقول:
هذه الآية تلتقط مشهدًا استثنائيا، فلا يمكنك إدراك المعنى هنا إلا إذا كنت ممن يستيقظون مبكرين، ويحرصون على متابعة اللحظة الزمنية المدهشة التي يُدبر فيها الليل ويُقبل فيها الصبح الذي يتنفس، الصبح الذي يزيح بياضه سواد الليل وسكونه، إذ تنطلق العصافير مع الشقشقة الأولى معلنة بداية اليوم، لن تدرك المعنى إلا إذا تابعت تغيّر الهواء، وخروج النبتة من الأرض، وتأملت ألوان الأشجار والثمار وشاهدت حركة السحاب وهي تسير في داوئر كبرى، من المركز وإلى المركز، من الله وإلى الله!
الصبح هنا علامة مذهلة، وأنت تخسر كثيرًا بغيابك عن رؤية هذه المعجزة الكونية اليومية التي أعدتها لك السماء، أنتَ لا تحتاج إلى ثقافة واسعة لترى هذا كله، تحتاج فقط إلى قدر من صفاء القلب ونقاء السريرة وهدوء النفس.
الصبح والليل، ينسلُّ هذا من ذاك، يخرج النهار من ظلمة الليل، تخرج الحركة من السكون، لا نهار بلا ليل، ولا ليل بلا نهار.
لا يضعك القرآن إزاء سجال الثنائيات الفارغ، فلا أفضلية هنا لليل على النهار، ولا للنهار على الليل، يحدثك القرآن ببلاغة نافذة عن الحقيقة، الحقيقة في قلب البلاغة والبلاغة تحاول الإحاطة بالحقيقة، البلاغة هنا ساحرة بالتأكيد، وبعض السحر حقيقة: سحر المعجزة، الولادة التي تجري أمام أعيننا كل يوم ساحرة، وهي حقيقة أيضًا!
نحن جزء من الكون، من هذه الدورة الشاهقة، الصبح يولد كل يوم، تتجدد أنفاسه، وتورق حياته، ونحن نولد معه، نتجدد، نسير نحو المركز، كل يوم بداية، وكل ولادة خطوة نحو النهاية، وكل نهاية وعد بولادة جديدة.
نحن جزء من هذه الدورة، وأعمارنا: فجر وصبح وظهر وعصر وغروب، الكون آية كبرى لمعاني الموت والميلاد، رحلة الصبح رحلتنا، وإدبار الليل إدبارنا.
أحب هذه البلاغة، وأحب حقيقتها، وأحب سحرها الفتّان، وأرجو أن أزين لك هذا السحر!
مقالات ذات صلة:
القرآن حينما يربط الإحاطة الإلهية بالرعاية الإيمانية
السعة الحرارية للماء والانضباط الكوني العظيم
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا