العلاقة بين العلم والتكنولوجيا عند فؤاد زكريا
اهتم فؤاد زكريا بالتفكير العلمي أو العلم باعتباره طريقًا نحو نهضة حضارتنا العربية والإسلامية، التي كان لها نهضة قوية سبقت بها حضارة الغرب بقرون عدة، بل إن تقدم الغرب وتطور حضارته الحديثة قام على إبداعات العرب والمسلمين. وفي إطار بحث فؤاد زكريا عن العلم تناول موضوعًا مهمًا هو صلة العلم بالتكنولوجيا، فقد حاول الإبانة عن هذه العلاقة أهي متصلة أم منفصلة؟ وهل حققت التكنولوجيا تقدمها بمساعدة العلم أم لا؟ هذا ما سوف نكشف عنه.
شهد العالم منذ سنوات مضت تقدمًا علميًا كبيرًا، وكذلك اكتشافات ومخترعات تكنولوجية كشف عنها الإنسان منذ العصور البدائية الأولى في مختلف المجالات، تبعًا لحاجة المجتمع الإنساني آنذاك، ووصولًا إلى عصرنا الراهن الذي شهد كثيرًا منها، ومع كل يوم نشهد جديدًا في مجال العلم والتكنولوجيا بما أفاد الإنسان منه في المجالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية كافة، فحقق على غرار ذلك نهضة عصرية، ناهيك أيضًا بالسلبيات التي يعانيها الإنسان في خضم التطور التكنولوجي الهائل.
طوال رحلة التفكير العلمي عبر عصور التاريخ البشري كان للعلاقة بين العلم والتكنولوجيا بخاصة في الآونة الأخيرة نشاطًا جديدًا متميزًا به عن غيره من عصور المعرفة البشرية السابقة، فالعصر الراهن –على حد قول فؤاد زكريا– تميز عن غيره بهذه السمة المميزة للعلم في مرحلته الراهنة، التي حقق فيها تطورًا وتقدمًا لا مثيل له، ومن هنا التساؤل التالي: هل ما حققه العلم في العصر الحديث كان بعيدًا عن التكنولوجيا أم على عكس ذلك؟ وهذا ما سنكشف عنه لاحقًا.
تعريف التكنولوجيا
إن ما توصل إليه الإنسان من مخترعات واكتشافات بدأ منذ أن وُجِد على سطح الأرض، وهذا دفع بالظن لدى غالبية الناس في عالمنا المعاصر بأن هذه الاكتشافات كلها حديثة العهد بالإنسان المعاصر، وهنا يرى فؤاد زكريا أن الشيء الوحيد في هذا كله أن لفظة تكنولوجيا حديثة العهد بالنسبة إلينا ولم يكن يعرفها أحد من قبل، لأن ظاهرة التكنولوجيا على حد قوله قديمة قدم الإنسان نفسه، لأن من الخطأ الربط بين التكنولوجيا والمخترعات الحديثة، لأن الأخيرة –المخترعات– لا تعد أن تكون آخر المراحل في تطور طويل بدأ منذ فجر الوعي البشري.
هذا يعني أن كلمة تكنولوجيا حديثة العهد بالإنسان، ومن هنا يمكننا أن نطلق على المخترعات أو الاكتشافات التي توصل لها إنسان العصر البدائي أنها تقدم تكنولوجي بالنسبة إلى عصره الذي عاش فيه.
فأول معنى يمكن أن يطرأ على ذهن الإنسان حين يحاول تعريف التكنولوجيا هو معنى التطبيق العملي، فالحلم معرفة النظرية، والتكولوجيا تطبيق لهذه النظرية في مجال العمل البشري، لكن على أي شيء يكون هذا تطبيق؟ إن كان المقصود به المعرفة العلمية النظرية فهذا معنى حديث بالنسبة إلى الإنسان المعاصر، لأن التكنولوجيا على مر تاريخها الطويل منذ العصور البدائية لم تكن تعتمد على العلم، لكن كان ميدانها عمليًا تطبيقيًا أي أنها قائمة على التجربة وبذل جهد صانعيها ومخترعيها القدامى.
اقرأ أيضاً: كارثة جديدة قادرة على تدمير التكنولوجيا الحديثة
تعريفات آخرى لكلمة تكنولوجيا
المعنى الآخر الذي تثيره كلمة تكنولوجيا أنها كانت وسيلة بالنسبة إلى إنسان العصور القديمة تستخدم في العمل البشري، فقد استعان الإنسان في تلك العصور بأدوات ساعدته على أداء أعماله، وهذا ما يستحق أن نطلق عليه اسم التكنولوجيا –على حد قول فؤاد زكريا– فعلى سبيل المثال تهذيب قطعة من الحجر أو المعدن وربطها بقطعة خشبية من جذع شجرة واستخدامها فأسًا لقطع الأشجار أو تقليب الأرض فهذا نوع من التكنولوجيا، وغيرها من الأدوات الأخرى مثل استخدام النار في الطهي والتدفئة أو صهر المعادن، فهذا يعد كما ذكرنا كشفًا تكنولوجيًا عظيمًا فاق في أهميته بالنسبة إلى العصر البدائي ما كشفه الإنسان في العصر الحاضر عندما استخدم الطاقة الذرية.
إذًا ما استعان الإنسان به كله لأداء أعماله إضافة إلى قواه الجسمية، هذا كله يستحق أن يُطلق عليه تكنولوجيا، ومع ذلك فما العلاقة بين هذه الوسائل التي أضافها الإنسان إلى جسمه للمساعدة في إنجاز أعماله؟ هي بالقطع امتداد له، لكن بأي معنى تعد امتدادًا لجسمه؟ هل هي مناظِرَة لهذا الجسم أم مُكمِّلة له؟ فلا جدال في أن الوسائل التي استعان بها الإنسان في أداء عمله كملت ما لديه من قدرات، فالفأس لا تماثل اليد أو الذراع البشرية، لكنها مساعدة لها على أداء عملها بمزيد من الكفاءة وهذا معنى آخر للتكنولوجيا؛ أنها الوسائل التي استعان بها الإنسان لاستكمال ما ينقصه من القوى والقدرات الجسيمة.
الصلة بين التكنولوجيا وحاجة المجتمع
بعد أن وضحنا أن الإنسان البدائي استعان بأدوات كملته وساعدته على أداء أعماله بكفاءة، إلا أن هذا النقص يتغير في طبيعته ومداه تبعًا لظروف كل عصر. هذا يعني أن العامل الاجتماعي كان له دور في تحديد مستوى التكنولوجيا المطلوبة لذلك الوقت، فأوضح دليل على ذلك أنه في العصور التي لم تكن فيها الآلات الميكانيكية ضرورية نظرًا إلى وجود قوة العمال آنذاك فلم تَظهر تكنولوجيا الآلات، مع أن ذلك العصر كان قادرًا على توصيل الإنسان وصنعه لبعض من الآلات على الأقل، فأرشميدس العالِم اليوناني المشهور –على سبيل المثال– قد صنَع بعض أنواع الآلات التي تسير أوتوماتيكيًا، لكنه كان يُعاملها أنها لعب يلهو بها الأطفال فكان يخجل من الإشارة إليها في أبحاثه، لأنَّ ظروف المجتمع في العصر الذي كان يعيش فيه لم تكن تتطلَّب وجود آلات. وهكذا فإنه مع معرفته إنتاج الآلات لم يُحاول أن يستعين بها في ميدان العمل البشري الجاد، مما يعني أن مستوى التكنولوجيا ارتبط ارتباطًا وثيقًا بحاجات المجتمع آنذاك.
الصلة بين التكنولوجيا وحاجة المجتمع إليها في العصور القديمة، على سبيل المثال العصر الحجري والبرونزي والحديدي، توصل فيها الإنسان إلى كشوفات عُدت بمنزلة تطور تكنولوجي هائل آنذاك، فاستخدام الإنسان للحديد، وكذلك استخدام النار لأغراض الصناعة واستخراج الخام من الأرض وغيرها، وتوصله لهذا كله بعيدًا عن النظريات العلمية، لأن المبدأ الذي قامت عليه الكشوفات هو التجربة والجهد الشاق، وكانت هذه الكشوفات كلها حاسمة في تاريخ البشرية، وهذا ينطبق أيضًا على العصر اليوناني الذي تطورت فيه التكنولوجيا في بعض المجالات، إلا أنها منفصلة عن العلم نظرًا لتمسكهم بالفهم النظري للعلم لإشباع حب الاستطلاع للعقل الإنساني، وهذا ما انطبق على العصور الوسطى الأوروبية والإسلامية، فاختراع البارود واستعماله في الحروب، والطباعة التي أثرت على حركة العلم والثقافة، وما كشف عنه الإنسان من العدسات المكبرة والمقربة التي بينت له أبعاد الكون الشاسع كلها، كانت على أيدي صناع مهرة لم يعولوا فيها على أي نظرية علمية بل بما ورثوه من خبرات وجهد شخصي.
اقرأ أيضاً: التكرار الأبدي للغطرسة البشرية
أوجه الارتباط بين العلم والتكنولوجيا
إذًا فالصلة بين التكنولوجيا والعلم إبان العصور القديمة ومع بدايات العصر الحديث مفقودة تمامًا، لذا يرى فؤاد زكريا أن التكنولوجيا كان لها أثرها على العلم على نحو كبير، فعديد من الاختراعات والاكتشافات كانت على أيدي صناع مهرة لم يعرفوا أي نظريات علمية ليعملوا على تطبيقها، بل إن العلماء هم من تأثروا بالكشوفات التكنولوجية واتخذوا منها منطلقًا لأبحاثهم العلمية فيما بعد، ودليلٌ على ذلك أن العلم اليوناني مدين بكثير لهذه الخبرات التكنولوجية المتراكمة لدى حضارات الشعوب القديمة، تلك التي أعطت العلم النظري فيما بعد دافعًا للتأمل والتفكير، ولولا هذا كله لما استطاع اليونانيون تحقيق ذلك كله في غضون زمن وجيز.
لكن شيئًا جديدًا بدأ بالظهور في العصر الحديث الأوروبي منذ القرن السابع عشر وإن لم يتضح في بدايته الوضوح كله، لكن نقطة انطلاق للإنسان في تلك الآونة استخدام العلم في الأغراض التكنولوجية، مما يعني اعتماد الكشوفات والاختراعات على نظرية علمية مؤكدة، وكان رائد هذا التطور “فرانسيس بيكون” الفيلسوف الإنجليزي، فكان هدفه سيطرة الإنسان على الطبيعة لخدمة أغراضه وإسعاد حياته، ومع ذلك لم تؤتِ دعوة بيكون ثمارها كاملة، بل كانت نقطة انطلاق جديدة للعلم وعلاقته بالتكنولوجيا.
على حد قول فؤاد زكريا فإن زمن فرانسيس بيكون كان مرحلة انتقالية بدأ فيها تلاحم بين العلم والتكنولوجيا، وزاد هذا التلاحم مع ظهور نوع جديد من التخصص احتل مكانًا وسطًا بين العالِم والصانع وهو مهنة المهندس التي لم تكن تُعرف من قبل، فقد جمع بين المعرفة النظرية والتطبيقية –أي بين العلم والتكنولوجيا– وتُعَد هذه المهنة تطورًا لعمل الصناع المهرة، ذلك بعدما اتضح أن الخبرات الموروثة وبراعة الشخصية ليست كافية وحدها في مواجهة متطلبات العصر الجديد، وأنه لا بد من إدخال العلم ومعارفه في التكنولوجيا.
كيف ساهم العلم في تطور التكنولوجيا
بعد الثورة الصناعية التي غيَّرت وجه العالم آنذاك على أيدي هؤلاء المهندسين، حلت معها الطاقة البخارية محلَّ الطاقة المائية أو طاقة الحيوانات (الخيل مثلًا)، واستُخدِم الفحم وقودًا للمصانع على نطاق واسع، وأصبحت عمليات الغزل والنسيج في مصانع ضخمة لا في ورش فردية صغيرة، وبدأت الإنسانية تجني ثمار الجمع بين العلم والخبرة العملية التطبيقية. ومنذ ذلك الحين أخذ هذا الاتجاه إلى الجمع بين العلم والتكنولوجيا يزداد قوة بالتدريج، بعد أن ظهرت فائدته العملية بوضوح قاطع، إذ إنَّ التطور الذي كان يستغرق مئات السنين على أيدي صناع مهرة أصبح يستغرق سنوات قليلة عندما تدخل العلم فيها.
جدير بالذكر أن البحوث العلمية التي كانت لها طبيعة نظرية خالصة سرعان ما تحولت إلى تطبيقات إنتاجية في مدة زمنية قصيرة، على العكس مما كانت تستغرقه إبان عصر الثورة الصناعية، وهذا الأمر ربما قد توقف على عوامل عدة أبرزَها فؤاد زكريا، أولها: حاجة المجتمع لهذه الاختراعات، وثانيها: مقدار الوقت والجهد والمال المبذول من أجل التوصل إليها، وهنا يضرب لنا مثالًا: اختراع القنبلة الذرية، فقد كان مشروعًا حيويًا آنذاك، ومن ثم فقد كان سباقًا رهيبًا مع الزمن حتى لا يظهر هذا السلاح الفتاك عند النازيين فيصبح أداة لتحقيق أحلام دكتاتور مثل هتلر، ولذا كُرِّست له الأموال وأُعطِيت له الأولوية القصوى على غيره من المشروعات، وقد تفرغ له أعظم علماء الطبيعة في القرن العشرين.
اقرأ أيضاً: القيم الخُلُقية وصناعة المعرفة العلمية
اختلاف رؤى المفكرين بين مؤيد ومتشائم
إن الشيء المهم من ذلك كله أن في ذلك العصر –على حد قول فؤاد زكريا– قد حدث تداخل وثيق بين العلم والتكنولوجيا زالت معه الحواجز الزمنية كلها التي فصلت بينهما في القرن الماضي والعصور القديمة، فظهرت في تلك المدة أبحاث علمية جمعت بين النظرية والتطبيق معًا بلا انفصال بينهما، حتى أصبح ذلك مصدر قوة حقيقية للإنسان المعاصر الذي أدى اختلاف رؤى المفكرين بشأنه بين مؤيد ومتشائم.
الفريق الأول: ذهبوا إلى أن هذا التداخل بين العلم والتكنولوجيا، وما خلفه هذا الاتصال الوثيق من آلات جديدة وقدرات هائلة، هذا الأمر حتمًا سيفلت زمامه من يد الإنسان وتنقلب عليه.
الفريق الثاني: متطرف أيضًا إذ ذهبوا إلى أن الآلة هي من تحرر الإنسان من أشكال العبودية كلها وتأخذه إلى مستقبل يحلم به الإنسان، فهم يطلقون العنان لهذا التقدم التكنولوجي لأنه أداة ضد أشكال القهر كله سواء قهر الطبيعة للإنسان أو الإنسان للإنسان.
الفريق الثالث والأخير: رأى أصحابه أن ما حققه العلم والتكنولوجيا من ابتكارات واختراعات جديدة مهما ارتقت بالإنسان هي في النهاية أداة طيعة في خدمة الإنسان على الدوام.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا