مقالات

ما أشبه اليوم بالبارحة

“مملكة غرناطة” في القرن الخامس عشر، كانت عبارة عن شريط ساحلي، يمتد على ساحل البحر المتوسط بمساحة ٨٨ كم، وكانت فخر الصناعة والزراعة، وآخر معاقل حضارة الأندلس وملاذ الوافدين هروبًا من الغارات الإسبانية على ما تبقى من الممالك الإسلامية في شبة الجزيرة الأيبيرية.

بمعنى تاني، تراث الأندلس الممتد طوال ٧ قرون كان متمركز آخر قرنين في الشريط دا، آخر بؤرة لحضارة الأندلس، أما باقي الممالك فسقطت واحدة ورا واحدة وأصبحت ممالك صليبية عفا عليها الزمن.

لحد سنة ١٤٨١م.

مملكة غرناطة وقشتالة .. صراع البقاء

مملكة قشتالة طول الوقت كانت بتخطط للهجوم على غرناطة والاستيلاء عليها عشان يخفوا من “الصداع”، لدرجة إنها بَنَت فسطاط كامل للجنود على حدود غرناطة اسمه “سانتافيه” عشان يفصلوا بين الشريط وباقي الممالك الإسبانية، وكانت مستنية الفرصة بس عشان تهجم، لكن عشان تهجم كانت محتاجة تلكيكة.

التلكيكة هنا كانت إن قشتالة تستفز غرناطة وتعمل إغارة سريعة كدا، فغرناطة ترد، وأغارت على مدينة الزهراء التابعة لمملكة قشتالة في هجوم مباغت، وأخدوا أهلها أسرى عندهم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الهجوم دا استخدمه الإسبان ذريعة لحشد هجوم مضاد كبير، روجتله إنهم هجموا على المدنيين الغلابة واستعبدوهم، ولازم نرد، والرد يكون أخير وحاسم، وعليه بدأت سلسلة من الحروب استمرت ١٠ سنين، حاول فيها أهل غرناطة المقاومة، وقدر الإسبان إنهم يسيطروا على الطرق المؤدية إلى غرناطة، بجيش ضخم مجهز، في مواجهة بعض القوات القتالية الصغيرة في غرناطة.

ثم كان الحصار.

حصار غرناطة

الإسبان قرروا إنهم يحاصروا المدينة ويعزلوها عن العالم، وبعدين قطعوا عنهم الإمداد والأكل والشرب ودمروا الحقول على إيد ٣٠ ألف جندي متوزعين على مزارع غرناطة، ٧ شهور من المعاناة والمجاعات، لكن مكانوش يملكوا إلا الشجاعة وبس.

حاصروا كمان المُغذي الرئيسي لسكان غرناطة وهي مالقة، عشان يمنعوهم إنهم يبعتوا أي مدد أو أكل أو شرب، واستسلمت مالقة واستعبد أهلها، ومبقاش فاضل غير غرناطة، والحل الوحيد كان إرسال الرسائل للممالك التانية عشان ينجدوهم من المجاعة وخطر السقوط:

  • مصر كان بيحكمها المماليك، وردوا على الرسالة إنهم وبخوا فيرديناند بلطف، وشجبوا الهجوم وهددوا بإجبار الأقباط على الإسلام، لكنهم كانوا مشغولين بتنافسهم مع العثمانيين، ولأن الإسبان كانوا أعداء العثمانيين هما كمان، فشافوا إنه مش وقت حروب جديدة.
  • المغرب كان بيحكمها بني مرين، لكن في سنوات السقوط كانوا ضعفوا، ومش قادرين حتى يحموا سواحلهم من الإسبان والبرتغال.
  • تركيا كان بيحكمها العثمانيين، حاول بايزيد التاني إنه يساعد، لكنه مكنش في إيده غير التهديد، والالتفات لمشكلاته الداخلية مع أخوه جم، وصراعه مع المماليك من جهة والمجر وترانسلفانيا والبندقية من جهة تانية.

سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين

العالم تخلى عن غرناطة غارقين في مشكلاتهم الداخلية وتنافس لا معنى له، ومفاضلش للمقاومة غير أهلها بس.

اضطر أبو عبد الله الصغير إنه يستسلم، ووزراؤه يتفاوضوا على مصالحهم الشخصية، وفي النهاية وقع اتفاقية تنازل عن المملكة للإسبان، شروطها احترام الديانة الأولية للسكان وأملاكهم وعدم إجبار حد على حاجة، وسلم مفاتيح المدينة للإسبان وسط أجواء من الأحزان الكبيرة، ومشي سنة ١٤٩٢م، بعد ما اترفع صليب فضي كبير أعلى برج القصر.

والنتيجة كانت.. فرحة تعم أرجاء أوروبا بخسارة آخر معاقلنا هناك، تهاني وتبريكات أوروبية خالصة للملكين الجداد فيرناندو وإيزابيلا، ومهرجان كبير للاحتفال بالنصر.

المعاهدة المتسامحة بينهم شوية بشوية خرقوها، لحد ما رئيس الأساقفة هناك سيسنيروس قرر إنه ينهي الحضارة العربية تمامًا، ويدمر المخطوطات والكتب والعلوم وحظر اللغة العربية والطقوس وإجبارهم على التنصير.

الاضطهاد على إيد محاكم التفتيش العنصرية وحظر أنواع الطقوس الإسلامية جميعها حتى لو لابس جلابية عادي، وتعذيبهم حتى الموت بأبشع الطرق غير الإنسانية.

طرد المسلمين من الأندلس

الملك فيليب الثالث جرّاء حمى رهاب الإسلام أمر بطرد الموريسكيين أو إعدامهم وأحفاد العرب من إسبانيا، أدت لتشريد ٣٠٠ ألف مسلم من الأراضي الإسبانية سنة ١٦٠٩.

تعاظمت القوى الأوروبية وسيطرتهم بعد كدا على الملاحة، مع تقزم الممالك الإسلامية جميعها واحدة ورا واحدة، وتكالب الدول الأوروبية عليها، وصولًا إلى سقوط الشرق الأوسط وتبعيته للغرب حتى يومنا هذا.

أخيرًا، انتهاء الحضارة الإسلامية تمامًا من الأندلس وتحولها إلى المملكة الإسبانية المعروفة، حتى إنك بعد سنين الحضارة دي كلها لو رحت هناك مش هتلاقي أي معالم إلا أقل القليل، فقط دولة أوروبية تتحدث الإسبانية، وأقل القليل اللي يعرف إنه كان فيه حضارة وقضية هناك، وعدت السنين والقضية اتنست تمامًا من عقولنا، وما بقي من ذكرى غرناطة بعض الأشعار والأغاني، بعض الشجن والحنين، بعض الأسماء، بعض الذكريات في كتب التاريخ، وقصيدة لرثاء سقوط غرناطة لأبو البقاء الرندي بيقول فيها:

لكل شيء إذا ما تم نقصان               فلا يغر بطيب العيش إنسان

هي الأمور كما شاهدتها دول            من سره زمن ساءته أزمان

وهذه الدار لا تبقي على أحد           ولا يدوم على حال لها شان

وما أشبه اليوم بالبارحة!

مقالات ذات صلة:

الدراسات الموريسكية: محاذير

جوازة تغير تاريخ العالم

أندلسيات

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

محمد أمير

كاتب ومؤرخ وصانع محتوى