المواطنة
إن المواطنة في أول معانيها الشعور بالانتماء للوطن الذي تعيش فيه، والانتماء إلى ما استقر في الوجدان الجمعي لأفراد هذا الوطن، ويقصد بالوجدان الجمعي هنا المشاعر التي توافق القلب الجمعي للأمة عليها، وهذا يتمظهر أول ما يتمظهر في العمل لصالح الوطن، وتقديم مصلحة الوطن على أية مصلحة أخرى، والتماشي مع عادات الأمة وتقاليدها ونبذ كل فعل أو سلوك يخالف هذه العادات.
ومن اللافت للنظر أن هذا الوجدان الجمعي له تأثيره المباشر والحاكم على أفراد الأمم من حيث أفعالهم وأقوالهم وسلوكياتهم، وبخاصة الأمم الشرقية التي تقدس كل ما يرتبط بالوطن وتعتز بكل ما يمتّن علاقتها بأصولها، وإن أية محاولة للتغريب والتفلت من هذا الارتباط تقابل بالرفض التام من أفراد الوطن، ومن هنا كان الوجدان الجمعي هو المقياس الذي تتحدد عليه مصاير أفعال المواطن قبولًا ورفضًا، فما وافقه من أفعال وسلوكيات تتلقاه الأمة بالقبول وما خالفه من أفعال وسلوكيات تتلقاه الأمة بالرفض.
المواطنة في الأدب
وماهية المواطنة كانت مادة غنية للكتّاب العالميين الذين عنوا برسم الشخصية الوطنية في أدبهم، فقد حرص الكتّاب على رسم شخصية بلدهم في أعمالهم، بكل ما تحمل هذه الشخصية من سمات مجتمعها وأمتها، وهذا من لدن الكتاب اليونانيين القدماء أمثال: سوفوكليس وإسخيلوس ويوربيديس، مرورًا بكتاب العصر الحديث: شكسبير وموليير وراسين، إلى أن جاء الكتاب المتخصصون في رسم شخصية الوطن في أدبهم، فنحن نتعرف مثلًا على سمات مجتمع “روسيا” من أدب “تولستوي”، ونتعرف على سمات مجتمع “باريس” من أدب “بلزاك”، ونتعرف على سمات مجتمع “لندن” من أدب “تشارلز ديكنز”، ولا نعدم مثل هذا الاتجاه في أدبنا المصري، فتوفيق الحكيم فعل هذا في رائعته: “عودة الروح” وفي غيرها من أعماله العظيمة، لكن هذه الرواية استطاعت أن ترسم روح الشخصية المصرية التي تتسم بالتعاون والمودة اللذين تقوم عليهما الأسرة المصرية، فقدمت الابن الذي تعايش مع أعمامه وعمته في بيت واحد ليكون ذلك رمزًا للوحدة القومية التي رمز إليها “الحكيم”، واستطاع أن يرسم البيئة المصرية في روايته بما تنطوي عليه من الجهل والفقر والظلم الاجتماعي حينئذ، بما أوجب اندفاع الجماهير في نهاية الأمر للخروج في ثورة عارمة لتطالب بالعدالة الاجتماعية وطرد القوى المحتلة في الثورة المصرية عام 1919م، وكذلك نجد مثل هذا الاتجاه عند نجيب محفوظ، وهو من أظهر الكتّاب الذين عنوا برسم الشخصية المصرية في أدبه، وغيرهم كثير مما يضيق المقام بذكرهم.
من مظاهر المواطنة الصالحة في مصر
الاحتلال البريطاني لمصر
تتجلى المواطنة في أبهى حللها في المواقف التي لا ينساها التاريخ ولا يأتي عليها الزمان، وتظهر تلك المواطنة الصالحة في المواقف العصيبة مثل مواقف الاحتلالات البغيضة، ونحن نتذكر يوم أن احتلت “بريطانيا” “مصر” عام اثنين وثمانين وثمانمائة وألف للميلاد، وجثم احتلالها على “مصر” سبعين عامًا فعل فيها الأفاعيل النكر، وجاء شيئًا إدًّا، فعانى الشعب كثيرًا ووصل تحمله إلى أقصى درجات المعاناة الإنسانية، إذ نُفي أبطاله وسُجنوا وشُردوا هم وذووهم، ونهبت خيرات بلاده وحرم أبناؤه ثوابها، وتآمر الخائنون والمرتزقة مع الإنجليز في هذا العدوان، ودفع هذا الشعب ثمن هذا التآمر.
لكن الشعب المصري لا يستنيم لغاصب ولا يرضخ لمحتل آثم، فعزم الأبناء المخلصون منه على تطهير أرضهم من المحتل، والقضاء على أذنابه، فجاهدوا في سبيل حريته، وتعددت أنواع جهادهم بتعدد فئاتهم، فثار الثائرون، وكتب المبدعون، واجتمعوا على كلمة سواء وهي الحرية، فكان لا بد لليل البهيم من صبح يزيل ظلمته، فبزغ فجر الحرية لينير سماء الوطن، ويحرر الشعب المظلوم من القيود التي كُبل بها، وذاك بعد أن قدّم الأبطال أرواحهم فداء لوطنهم وحريتهم، وبعد أن تضافرت الكتابات التي ألهبت شعلة الحماسة داخل النفوس الأبية.
ثورة 1919
ومن مواقف المواطنة الخالدة التي عاشت في ذاكرة الوطن ما كان إبان ثورة تسعة عشر وتسعمائة بعد الألف من الميلاد، حين تعانق الهلال مع الصليب دفاعًا عن الوطن الذي يُظِل الجميع برايته، وأصبح شعار المصريين وقتئذ: “يحيا الهلال مع الصليب”، وحقًا فالحياة الكريمة مكفولة لأبناء الوطن كلهم، وإن التعدي على الجزء هو تعدٍ على الكل.
ظن الإنجليز أن مسيحيّي مصر سينضمون إليهم بوصفهم أصحاب ديانة واحدة، وقد كانت إنجلترا آنذاك المهيمنة على الكنيسة الغربية، لكن هيهات هيهات أن يتخلى المسيحيون المصريون عن مواطنتهم المصرية ويضحون بإخوتهم من المسلمين، فتلك المواطنة مستقرة في الوجدان الجمعي للمصريين جميعًا على السواء، وتمظهرت تلك المواطنة هنا في تعانق الهلال مع الصليب والتضحية في سبيل إنجاء الآخر أيًا كانت ديانته، ويحكي لنا التاريخ كيف كان الشيوخ والقساوسة يتبادلون الأمكنة، فالشيوخ خطبوا في الكنائس، والرهبان –الذين رفضوا الانضمام إلا إلى الجانب المصري– ذهبوا إلى المساجد مؤكدين بذلك على التمسك بوطنهم وعدم بيعه، ولقوا في سبيل ذلك ما لقوا –مثل إخوتهم المسلمين– من ألوان التعذيب والسجن، ورفضوا أية محاولة تفصم العلاقة الرابطة بين أبناء الوطن الواحد، ومن هنا كانت علاقة المواطنة أقوى من محاولات الإغراء الاحتلالية كلها.
مقالات ذات صلة:
بريطانيا وإعادة هيكلة الاقتصاد المصري
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا