تمكين الشباب … كيف ولماذا؟
صراع الأجيال
في السنوات الأخيرة، ومع التقدّم التكنولوجي الهائل ونشوء أجيال من الشباب اعتادت على النمط السريع للحياة وإنجاز المهام، أجيال تتعامل مع الإنترنت والوسائل الإلكترونية للتواصل وإجراء المعاملات بدلا من تلك التقليدية التي تستغرق زمنًا وتتطلب مجهودًا أكبر، في الذهاب إلى المكتب الفلاني ثم العلانّي، وشراء الطوابع الورقية الضرورية، والحصول على الموافقات وتحمّل أوقات الانتظار في الطوابير وفترات الاستراحة أو المماطلة، أصبح الواقع يصرخ فينا بضرورة تمكين الشباب المواكب لمتطلبات العصر وتطوّراته.
لكن في المقابل كثيرًا ما يقف أمام هذا التوجه المحافظون، الذين يؤمنون بضرورة استمرار كل شيء على حاله الاعتيادي، رافضين للمخاطرة غير مضمونة العواقب، ومعتبرين مصطلح تمكين الشباب حاملًا لمعاني كثيرة سلبية مثل الارتجال وتولية من ليس أهلا للمسئولية وإحالة الكهول والتقليديين إلى تحف عديمة الفائدة، وإهدار مكانتهم الاجتماعية وتهديد مصالحهم.
تمكين الشباب
ومصطلح ” تمكين الشباب ” نتيجةً للفوضى المعرفية السائدة فإنه كسائر المصطلحات مفهوم بأشكال متعددة تختلف من فئة للأخرى في المجتمع، وكثيرا ما يتم التعامل معه كليًّا عن طريق استشعار الفائدة أو الضرر من التطبيق المستند على هذا المفهوم. كذلك فإنّ الاختصار المشهور للموضوع في وضع الجديد محلّ القديم، وكبار السن يحل محلهم الشباب ، هو اختصار خطير ومخلّ.
هذا الاختصار قادنا إلى صراع داخلي منهِكٍ مهدِرٍ للطاقة وهو صراع الأجيال. وأدّى بنا كذلك إلى مواءمات سياسية كوميدية، تأتي بمن هم شباب في ظاهر الأمر لتضعهم في المسئولية، بينما هم تقليديون محافظون على شاكلة سابقيهم، على أن يكونوا من أهل الثقة أو يكونوا خاضعين تمامًا للمنظومة القديمة، طوعا أو كرها! ونحن الآن نعيش عصرًا متميزًا، ظهر فيه جيل جديد من تزييف المعلومات استنادًا على فلسفة حقّ القوة –الصديق الوفي والمحرّك الخفي للكثير من الشرور- فليس بمستبعَد أن يخرج علينا مسئول ليؤكد أن بلادنا تنعم بريادة وتقدّم مستمر في سعيها لتمكين الشباب، حيث إنّ التمكين مشتق من الماكينات، وأما الشباب فبالفعل يتحرّكون في الحياة كما يراد لهم تماما مع مساحة حرية مناسبة جدا!! بنفس الطريقة سيتأكد للمتلقي انتصار الثورة عندما يربط المسئول الموضوع بالمقولة المشهورة “ثور في ساقية” وتعبّر الجهات المختصة بالإحصاء وعلوم اللغة عن إعجابها بدقة وبراعة المسئول.
الأمر ليس مجرد شعارات
في أحد أقطار العالم المتقدّم تكنولوجيا وعسكريا يحكم الدولة رئيس أسود البشرة، كان معروفًا في شبابه بدفاعه عن الأقليات، احتفى بوصوله للرئاسة المجتمع المدني لهذه الدولة باعتبار ذلك نصرًا تاريخيًا على التمييز ضد السود واستعادة لكامل حقوق الأقليات. والآن وفي ولايته الثانية تخرج حملة Black People Matter، بعد سلسلة من الحوادث التي راح ضحيتها مواطنون شباب سود البشرة، وأفلت الجناة (بيض البشرة) من العقاب مستغلين ثغرات قانونية. يحق لنا الآن أن نتساءل: هل قبِل هذا المجتمع الأقليات وأعطاها كافة حقوقها بالفعل، أم أنه قام بتدجين وتطبيع هذه الأقليات لتقبل بعرف هذا المجتمع، بل وتمثّله!
وهكذا يتبيّن لنا أنّ وضع فرد من الأقليات أو شاب أو امرأة في مركز من مراكز صناعة القرار يعطي شعورًا بوجود تمثيل عالي المستوى لهذه الفئة، لكنه لا يعني بالضرورة تمثيلًا حقيقيًا لمصالحها واحتياجاتها، وكثيرًا ما يكون تمثيلا على المجتمع لا تمثيلا له. إننا جميعا في حاجة لتمثيل نوعي -لحقوقنا ومتطلبات تقدمنا- في مؤسساتنا التشريعية والتنفيذية، بدلًا من التمثيل الكمّي المفرغ من المضمون.
التمكين الحقيقي للشباب
إنّ الشباب الذي ينبغي تمكينه ليس محصورًا في فئة عمرية أو طبقة اجتماعية ما، فالشباب شباب الأفكار والأرواح أوّلا، والإنسان إن دارت معظم أفكاره حول حب التملّك والتمتّع بالمكانة الاجتماعية، وكان شعوره بالأمن والقيمة مستمدا من ذلك، فإنه يتحوّل لأسير للخوف من الفقد، فيشحّ عن العطاء ويميل للأنانية، أما إن كان معطاءً، ساعيا في الخير دوما، مبادرا منفتحا على الحياة، متمتعا بروح المغامرة والتحدّي، ناشرا للبهجة والسعادة، فإنه يكون شابا وسفيرا للشباب مهما كبر سنّه.
كذلك فإن طول النظر في منغّصات الحياة مع عدم إجادة التعامل مع الطاقة السلبية المتولّدة عن ذلك، وسيطرة الإحساس بالاكتئاب والتشاؤم واليأس على الفرد أو المجتمع، يحيله إلى عجوز لا طاقة له للتعايش مع الحياة، ناهيك عن تغييرها للأفضل.
من وجهة النظر هذه سنرى أنّ طرفي “صراع الأجيال” متفقان في الواقع وخلافهما متوهّم السبب. فكبير السن الرافض لأن يتم استبدال “جيله” بجيل آخر حسب أسس غير موضوعية بالضرورة، ((ونتيجة لحماسة لن تلبث أن تهدأ)) يرى أنّ ذلك قد يؤدي إلى تحميل المسئولية لمن ليسوا مؤهلين، أو يؤدي لانسحاق فكري وتقني أكبر للعالم المتقدّم تقنيا مما يهدد خصوصياتنا ويجعل أنظمتنا سهلة الاختراق، وكذلك قد يرى في ذلك حكما عليه بالموت –المعنوي- بتحويل هذا الجيل وما يتميّزون فيه ويجيدونه لصفحة من التاريخ.
وفي المقابل يرى “حدثاء العهد” بالواقع العملي وصناعة القرار (بالنسبة للمخضرمين) أننا متأخّرون عن ركب الحضارة وينبغي أن نسرع الخطى ونجد في العمل حتى نخرج من واقعنا الراكد الأليم، يرون أيضا أنّ طاقات كثير منهم مهدرة بالفعل في السعي لتلبية المتطلبات الدنيا للحياة، أو في البطالة، أو في أعمال لا تستخدم ما أفرغوا سنين من عمرهم ليتعلّموه مما يجعلهم يشعرون بعبثية عملية التعليم والتأهيل لسوق العمل، عبثية هذا الذي يحرص “الكبار” على الحفاظ عليه ويخططون لاستمراره. أليس واقعنا طاردًا للإبداع والحياة، باعثًا على اليأس وحاجرًا على حريّة الفكر في كثير من الأحيان؟!
أين اتّفاق الطرفين إذًن؟
إنّهما متفقان في أنّ معيار الاختيار يجب أن يكون موضوعيًا، لا تحدده اعتقاداتنا عما هو من الصواب فعله، ولا الكيفية التي يرى أغلبيتنا أنها صحيحة أو مناسبة، هو فقط متعلّق بما تصلح به الحياة ويتطوّر به العمل، وبعضها يجب السعي لمعرفته عن طريق قراءة الوضع القائم بدقة، والآخر ثابت يتعلّق بالقيم الثابتة والمنطق المجرّد. تغيير الأفكار والأساليب ليس فقط تغييرًا في مجموعة العمل. وليس كل ما هو حديث بالضرورة أفضل مما هو أقدم.
الطرفان أيضا متّفقان في رفض الحالة التي تلغي وجود وتعطّل طاقات وقدرات فئة من الناس ويعتبرون حالة كتلك سببا لصراع لا يتوقّف عند حدود تحصين المكانة أو مصدر الرزق بل يعتبر حربًا على وجود من يتم حذفهم من الخطة. إذن فعلى من يتكلّمون عن العدل والصواب أن يوجدوا للجميع المكان الذي يستطيعون من خلاله المساهمة في التقدّم من خلال الوضع الجديد، أو على الأقل أن يسمحوا للجميع بإيجاد فرص لأنفسهم، وإلا فإن مصداقية الدعوة للعدالة والتشارك في المسئولية ستتضاءل وسوف تكسب عداوات حتمية. الحياة والشباب والفرص يجب أن تكون مكفولة للجميع كل حسب كفاءته واستعداده للعطاء والتعلّم، إنها كليات لا يصلح تطبيقها على نطاق جزئي.
تمكين الشباب هو في تمكين روح الشباب من النفاذ لعقولنا ونفوسنا وأفكارنا وواقعنا.
تمكين الشباب هو في ترك البالغين العاقلين يخوضون حياتهم وتجاربهم دون وصاية ممن يظنون أنهم عالمون ببواطن الأمور ومآلات المساعي بناء على استقراءات ناقصة وقيم قابلة للتزحزح أمام المصلحة أو فساد المنهج المعرفي. إنه في أن تعيش حياتك أنت وتملأها بالحيوية والإيجابية، وتترك الآخرين يعيشون حياتهم.وفي أن تبني من أبنائك وتلامذتك شخصيات ذات علم وعقل متفتح وقيم سليمة ثابتة يقتحمون مجاهل الحياة بشجاعة ويضيفون لعُمر أمّتك فضلا عن رؤيتك فيهم امتدادًا لعمرك وعملك الصالح، ومساعدتهم إياك على أن تكون أقرب لروح العصر حين تميل للشعور بالاكتفاء من التعلّم والتعب من السعي في الحياة، حين تحتاج لهذه الرفقة.
إنه في “فليقل خيرًا، أو ليصمت”، وفي جمع العقل العملي بين ” كأنك تعيش أبدًا ” و ” كأنك تموت غدًا “
إنه في توجيه طاقة الناس نحو التغلّب على طواغيت الكون وصرفها عن محاربة نواميسه.
إنه في ترك الطفل الذي تبرق عيناه بالفضول وحب المعرفة يتساءل، ومساعدته في الوصول لإجابة عن أسئلته بدلا من زجره وتربيته على الاتباع دون سؤال.
إنه في أن تجتمع مع من يشاركونك الأفكار والطموحات لتعملوا وتنموا معا بدلا من أن تظلوا متناثرين يعيش كل منكم غربته وحده، وألا تخدع نفسك بوحدة مزيفة هشة الأسس تجمعك بمن حولك ولا تجدها متى استدعيتها.
لهذا #بالعقل_نبدأ