غريزة البقاء عند المصريين .. الجزء الثاني
لم تأت الأدبيات التي أرخت لتاريخ مصر وهندسة مجتمعه على ذكر كلمة “البقاء”، ربما لأن الجميع تعامل معها باعتبارها معطى طبيعيًا، ومسلكًا إنسانيًا، وشيئًا مُسلَّمًا به، في حين تحدث الكل عن “الاستمرارية” في وجه “التغيير”، نظرًا لأنه اصطلاح عملي قابل للترجمة في صيغة إجراءات وأمثلة وأدلة يمكن تقديمها أنها براهين على أن المصريين قد احتفظوا على مدار آلاف السنين بقيم وطقوس ومعارف راسخة كالجبال الرواسي، لم ينل منها استجابتهم للتحديات التي فرضها التطور الاجتماعي والمعرفي الذاتي، أو الثقافات والظروف التي اقتحمت عليهم حياتهم من هنا وهناك، بفعل الغزو أو التأثر الطوعي بالآخر.
من طبائع البشر، خصوصًا الذين ينتمون إلى حضارات قديمة، أن يحتفظوا من قديمهم بكل نافع، ويرونه شيئًا أو معنى باقيًا في حياتهم، ولا يجدون أي تعارض لاستمراره في جديدها الذي يتدفق بلا هوادة. ما يعني أن الاستمرارية هي المسعى الإجرائي المعبر عن القيم والطقوس والتصورات الباقية.
هكذا تحدث جمال حمدان
في كتابه شخصية مصر يرى جمال حمدان أن ما استمر في حياة المصريين الأشياء المادية، أما الذي تغير فهو الأمور المعنوية، على اعتبار أن انقطاعًا قد وقع مع ماضيهم التليد باعتناق أغلبهم الإسلام دينًا، واتخاذهم العربية لسانًا، ما أدى إلى تواري أديانهم ولغتهم القديمة وغورها في قيعان بعيدة، لا يمكن أن تُستعاد على حالها التي كانت عليها في القرون الغابرة، لكن هذا لا ينفي أبدًا أن كل مستمر عبر التاريخ لا يخلو من تغيير خفي يسري في هدوء، ويغير على مهل، الأحوال والتصورات والمعتقدات والآراء وحيل التكيف مع الواقع المتجدد.
لكن هذه الرؤية ينقصها التحليل الدقيق للثقافة الشعبية المصرية، التي لا تزال تحتفظ ببعض ما كان سائدًا في مصر القديمة أو الفرعونية من أساطير وحكايات وحكم وأمثلة وطقوس في الأفراح والأتراح وتصور عن السلطة السياسية أو أهل الحكم. وهي مسألة طبيعية ومفهومة، إذ لا يوجد انقلاب أو تغير حاد مهما كان فجائيًا بوسعه أن يقطع تمامًا صلة الاستمرار بين الماضي والحاضر، في تاريخ أي بلد.
الهوية الفرعونية
لا يقف هذا التواصل عند ما وعته النخبة الثقافية من تصورات ومعان وأفكار وقيم عن الحقب الفرعونية، بعد فك رموز اللغة الهيروغلفية، ما أدى إلى استيقاظ العناية بالهوية الفرعونية مثلما عبر طه حسين في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” وسلامة موسى في تصوره عن انتماء مصر، وما حاوله نجيب محفوظ من كتابة تاريخ مصر القديمة عبر روايات “عبث الأقدار” و”كفاح طيبة” و”العائش في الحقيقة”، وما استعادته مسرحيات لتوفيق الحكيم، وأطلت به من بطون أعمال أدبية كثيرة ومتنوعة، شخصيات تاريخية وأسطورية مثل إيزيس وأوزوريس وحورس وهيباتيا، ومعهم مشاهير الفراعنة مثل بناة أهرامات الجيزة ومينا وأحمس ورمسيس ونفرتيتي وحتشبسوت وتحتمس وتوت عنخ آمون وغيرهم، ثم ما تفاعل في الواقع فيما بعد إلى درجة أن بعضهم قد شرع في تأسيس حزب سياسي اسمه “مصر الأم” يجعل من الهوية الفرعونية إطارًا له، لكن لجنة الأحزاب رفضته، وتوقف تنظيمًا، لكنه لا يزال مستمرًا فكرةً عند البعض.
أهمية الديانة المصرية القديمة
كما ينقص رؤية جمال حمدان النظر العلمي المتأني في السياقات المرتبطة بالأديان، وتاريخية بعض نصوصها، فالناظر مليًّا في هذا سيجد بصمات مصر القديمة حاضرة بقوة، وفيما تترجمه مقولة نيوبري: “مصر وثيقة من جلد رقيق، الإنجيل فيها مكتوب فوق هيرودت، وفوق ذلك القرآن، وتحت الجميع لا تزال الكتابة القديمة تقرأ بوضوح”.
أدرك بريستيد في كتابه “فجر الضمير” هذه المسألة، فقال إن “التقدم الاجتماعي والخلقي الناضج الذي أحرزه البشر في وادي النيل الذي يعد أقدم من التقدم العبري بثلاثة آلاف سنة، قد ساهم مساهمة فعلية في تكوين الأدب العبري، الذي نسميه نحن التوارة”.
للتوارة وشروحها تأثير على كثير من تفسير القصص القرآني، فيما تأثرت العقيدة المسيحية بالتصور التثليثي الذي كان قائمًا في مصر القديمة، وكان للأديان السائدة في الأخيرة أثرها أيضًا على ما كان يدين به أهل شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، بل إن بعض المعتقدات التي تعتنقها شعوب شتى في جنوب شرق آسيا وإفريقيا لها أصول أو جذور في مصر قبل آلاف السنين.
مع المسيحية والإسلام “استمر كثير مما تعارف عليه المصريون منذ أيام الفراعنة مثل: العادات الجنائزية وصلة الأحياء بالأموات، ثم العادات الاجتماعية في الموالد والأفراح، والصلات الشعبية والروابط القروية والأسرية وغير ذلك مما ينظم العرف والتقاليد أحيانًا كثيرة، ومما ينظم القانون في بعض الأحايين” كما يقول سليمان حزين. ومن هنا نجد أن المصري قد “جمع الفكر القديم والحديث في رباط ظاهره التناقض والمتناقضات، لكن باطنه ينطوي مع ذلك على كثير من التوافق والتكافل.
الفكر السياسي في مصر الفرعونية
لم يقف التأثير عند حد الأديان والثقافات بل يمتد إلى السياسة متمثلًا في جانب منها عبر فكرة “الماعت” أو العدالة التي عرفها قدماء المصريين، وكذلك “فكرة الحق الإلهي للملوك”، التي أعجب بها يوليوس قيصر بعد غزوه مصر، لكنه لم يتمكن من تنفيذها كاملة، لتكمن ثم تظهر في التحالف بين الملوك والكنيسة في أوروبا خلال العصر الوسيط، لتنتقل فيما بعد إلى بلاد فارس في تصورها عن “ملك الملوك”، ثم إلى بلاد المسلمين في العصر الأموي وما بعده، لتظل قائمة في التصور السياسي لبعض الجماعات الإسلامية عن “الحاكمية”، وفي تصرف بعض من يجلسون على عروش البلاد المعاصرة ويظنون أنهم يستمدون حكمهم من الله سبحانه وتعالى.
مقالات ذات صلة:
كيف توصل الفراعنة لبناء الهرم المتين
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا